الجمعة 2022/08/05

آخر تحديث: 15:43 (بيروت)

وقد كان خراباً..

الجمعة 2022/08/05
وقد كان خراباً..
مضى عامان وما زالت التوابيت تطالب بالعدالة (غيتي)
increase حجم الخط decrease

لي مع الشقق والبيوت التي تنقلت بينها في بيروت، قصص وتجارب وذكريات، بعضها حلو ومعظمها مُرّ، وفيها الكثير الكثير من الحنين. لكن قصتي مع ذلك البيت بالتحديد، تحتلّ مكانةً خاصة في ذاكرتي. فهو بيت الختام، المكان الذي انتهت معه محاولاتي لإيجاد "بيت" في بيروت. انتهت، منذ سنتين تحديداً، بالهزيمة والاستسلام والاغتراب الى أجل غير مسمّى.

على مدى سبع سنوات، غيّرتُ مسكني مرات عديدة، ولأسباب غير مفهومة صراحةً. فكلما تعاظَم شعوري بالانسلاخ عن هذه المدينة الغريبة عن نفسها، حَملتُ حيواناتي الأليفة و"كلاكيشي" التي ما انفكت تزداد عبر السنوات، لأدور بها بحثاً عن بيت جديد يأوي غربتي. الى أن حطّ رحالي أخيراً في تلك الشقة في كرم الزيتون، قبل عام على الانفجار. أذكر يومها أن أحد أسباب اختياري لذلك المنزل، كان بياض الجدران التي تم طلاؤها حديثاً، ونظافة البلاط الذي تمّ جليه أيضاً، وهي أمور نادرة جداً في البيوت المُأجَّرة في بيروت. "واااو بيلمّع،" أذكر أنني قلت لصديقي، واستعجلت في إبرام الاتفاق مع صاحب البيت كي لا يأجّره لشخص آخر.

بحالةٍ من الفوضى العارمة، تركتُ "بيتي" الأخير هذا في بيروت. الجدران البيضاء ملوثة بالدماء، والزجاج الجديد أشلاء، والبلاط "المجليّ" يغطيه الشحتار والغبار ورماد المدينة المسمومة من قَبل انفجار الأمونيوم.

ضحكتُ كثيراً حين عدت الى البيت ليلاً ورأيت أغراضي مرمية على الأرض بين الركام، ومن بينها منشور احتفظتُ به من أيام الثورة، أحد أعداد جريدة "17 تشرين" وفي صفحتها الأولى خُطّت جملة واحدة ثلاث مرات "سيكون خراباً.. سيكون خراباً.. سيكون خراباً". يا لهذا اليقين! ويا لهذه النبوءة! ضحكت بشكل هستيري. ضحكت حتى البكاء وأنا أصيح "لاء ولوووه!".

غادرت ذلك الحي بعد أسبوعين على الواقعة، ولم أجرؤ على زيارته منذ ذلك الحين. ليس لأنه يذكرني بـ"تروما" الانفجار، بل لأنه يذكرني بأنه كان لي في هذه المدينة، وفي هذا العالم، بيت فقدته. أنا اليوم غريبة هنا، وفي كل الشقق التي سأسكنها من الآن فصاعداً لكني لن أدعوها "بيتاً". كلنا غرباء في هذه المدينة، والمدن التي هربنا أو سنهرب إليها، وربما هذا هو القاسم المشترك الوحيد بيننا. ومن أجل ذلك، نبوح اليوم، علّ البوح يلطّف المرارة العالقة في الحلق.

تذكرني حاجتي لهذا البوح، بحاجتي للتقيؤ بعد إصابتي بالزجاج قبل عامين. أحاول أن ألجم نفسي عن المشاركة في حفلة الرثاء والبكاء على الذات، لكني أفشل. أشعر بحاجة للتقيؤ من جديد. فلنتقيأ كل هذا السمّ، والحبّ أكثره فتكاً.

اليوم تتساقط أهراءات القمح. تتساقط على مهل، بتثاقلٍ، صومعة تلوَ الأخرى. وكأنها تريدنا أن نشعر بدويّ كل سقطة على حدة. وكأنها تعلن لنا أن الإنهيار لا قعر له، وأن الخلاص ليس بقريب. فلا خلاص للذاكرة في مدينة جائعة تشاهد أهراءات قمحها تحترق على مدى أسبوعين. يا لها من نكتة سمجة، في هذا التوقيت وفي هذه الظروف. لعّله انتقامها منا. ولعلّه أيضاً إنصاف لذاكرتنا الممزقة. فرغم أن هذه الأهراءات لم تعنِ لنا شيئاً قبل الرابع من آب، لكننا نشعر اليوم أننا نفقد بيروت مرّة أخرى. فهي الشاهد الأخير على بيروت ما قبل الإنفجار، بيروت التي كان فيها قمحٌ وخبزٌ، والتي لم يبقَ منها شيء سوى سوط الذاكرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها