الجمعة 2018/01/19

آخر تحديث: 18:47 (بيروت)

هكذا أصبحَت صديقتي شرسة

الجمعة 2018/01/19
هكذا أصبحَت صديقتي شرسة
increase حجم الخط decrease
تبدلت تلك الأنثى الرقيقة المفعمة بالنعومة والإحساس، صاحبة الخدين الحمراوين، يتلبسهما الخجل في حال رمقها وسيم بنظرة، أو إن اخترقت كلمة غزل أذنيها. لا تقوى على شتم إنسان، فما بالك بالأذية.   
وفجأة، انقلب حالها رأساً على عقب. باتت أنثى شرسة، متأهبة دائماً لتلقين أحدهم درساً، بصفعه على وجهه أو ركله بإحدى قدميها، أو ربما ضربه بأداة حادة إذا كانت محظوظة بتوافرها، تجعله بعد ذلك في حاجة ماسة لعلاج يبقيه في المستشفى لأشهر وليس لأيام، يزج بعدها في السجن حتى يتعفن. 

عجباً ما كل هذا الإجرام ومن أين أتت بهذا الكم من العدائية؟ 

لا تتبدل أنثى رقيقة مثلها من فراغ، بالتأكيد حدث معها أمر ما، جعل منها أنثى مختلفة. فالمرة الأولى التي تعرضت فيها لتحرش جسدي كانت كفيلة بإحداث هذا التغيير في شخصيتها.
حدث ذلك للمرة الأولى حين سافَرت الى مصر قبل نحو عامين، حين كانت برفقة مجموعة من صديقاتها، وهم في طريقهم من الفندق الى مكان قريب بقصد التدريب. فاقتب أحد المارة في مكان مزدحم بالشبان، ووضع يده على كتفها يلتمس جسدها. كان رجلاً في الستين، وجهه أسمر ذو لحية خفيفة، ويرتدي جلباباً طويلاً.

مرّ عامان، وما زال المشهد يستوطن ذاكرتها. وقتذاك صرخت بأعلى صوتها في لحظة تسارع فيها قلبها بالخفقان، وتشتتت أفكارها. فجلّ ما رأته، زحمة صور متداخلة في رأسها لم تجد أي تفسير لها. ربما كانت على حافة الإغماء قبل أن تتدارك صديقاتها الأمر ويحطن بها كدائرة، لتمسك بيدها واحدة من الفتيات، متزوجة من شاب مصري، وترافقها جنباً الى جنب، قبل أن تهمس في أذنها "هذه الملابس لا تليق بشوارع مصر"، وكأن المشكلة في الفستان الذي كانت ترتديه الفتاة وليس بالمتحرش! 

بالطبع لم تقصد صديقاتها ذلك، بقدر ما أردن حمايتها وعدم تكرار ما حدث معها، لكن الواقع أن الحالة التي أصيبت بها الفتاة لم تكن تحتمل مزيداً من اللوم ولو أنه صدر عن طيب نية. 
هي التي كانت قد ملأت حقيبتها بملابس اعتادت على أن ترتديها في شوارع مدينتها، من فساتين وقمصان مكشوفة. لذلك سارعت صديقاتها لعرض المساعدة عليها بإعطائها ملابس أكثر "احتشاماً" تقيها حادثة تحرش اخرى. حتى أنها استمرت في ارتداء الملابس نفسها خلال الأيام القليلة التي تلت الحادثة الى أن غادرت مصر. 

ذلك اليوم المشؤوم، شكل بداية تحول في ذاتها، ليس بالمجمل، لكن في الشق الذي يتعلق بهذا الموضوع تحديداً. إذ وصل بها الأمر لأن تعتبر التحرش اللفظي امراً عادياً، لا تكترث له كثيراً بعدما كان يصيبها بالهستيريا وكأنها تنتفض لنفسها ولنساء الأرض جميعاً، لتضعه اليوم في خانة المعاكسات التي لا تتأثر بها أصلاً. 

ولأجل ذلك، باتت أكثر عدائية، ربما بذلك تخفي بعضاً من خوفها وقلقها فتظهر بأنها قوية وأنها لا تبالي. لكنها تلتفت مرات، وهي تمشي في الشوارع، خوفاً من أن يتبعها أحد، كما تتأبى الدخول في الزحمة، وتصب نظرها في عيون المارة جميعاً، وكأنها تقول لهم: "تجرّأوا على الاقتراب مني.. وسترون مني رداً عنيفاً". 

هذه العدائية انتقلت ايضاً تجاه أحد جيرانها الذي يعاني اضطرابات نفسية، ويتلقى علاجاً. فبعدما كانت تتعاطف معه، باتت شديدة الحذر منه، وتتخيل أنه سيطاردها في أي لحظة، لذلك باتت تترقب خطواته حين تمر بجانبه. في الحقيقة، هي تعي جيداً حجم المعاناة التي يمر بها، وتحمل تجاهه كمية كبيرة من التعاطف، لكن حذرها الجديد منه ينبع من تصور موجود في جمجمتها يقول لها: يجب أن تكوني يقظة، كي لا يباغتك أحدهم فجأة، فالحب الذي يبديه الإنسان تجاه الآخرين ليس سوى نقطة في بحر حبه لنفسه ولجسده. 

قبل أيام، قالت لي صديقتي المصرية أن التحرش الجنسي جزء يومي من روتين معظم الفتيات في مصر، يحدث ذلك في الشوارع والحدائق العامة ووسائل النقل المتعددة والكورنيش. وبأن الممارسات الجنسية الفاضحة باتت أكثر عنفاً كالضرب ومحاولة القتل في حال اشتكت الفتاة أو أبدت إمتعاضها من ذلك، مثلما حصل مع فتاة "المول" الشهيرة في مصر قبل مدة. 

قرأت ذلك وأنا أستعيد في مخيلتي حادثة الفتاة، التي كانت كفيلة بإحداث تبدل جذري فيها، أقله في نظرتها إلى الرجال عموماً، فكيف بالفتيات اللواتي يعشن أحداثاً مماثلة باستمرار، يخبرن عنها أو يتكتمن عليها، خوفاً من المجتمع والفضيحة، إضافة إلى المشاكل النفسية التي قد تحتاج الى متخصصين نفسيين يفوقون العدد الموجود على هذا الكوكب. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها