الإثنين 2022/05/09

آخر تحديث: 14:45 (بيروت)

لأن اليأس حقيقي.. سنصوّت ضدهم

الإثنين 2022/05/09
لأن اليأس حقيقي.. سنصوّت ضدهم
الرئيس ميشال عون تابع انتخابات المغتربين في وزارة الخارجية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يجلس النقيب في الأمن العام خلف مكتبه.. كنت أتذمر من أن تأخير إعطائي جواز السفر قد حرمني فرصة للسفر، فشعر أن الموضوع يمسه شخصياً، وقال لي: "الخاسر الوحيد أنا". سيتقاعد النقيب، هذا العام، أخبرني أن تعويضات التقاعد كان من المفترض بها أن تبلغ قبل الأزمة حوالى مئتي ألف دولار أميركي، يؤمّن بها مستقبل أولاده. الآن، لن تزيد قيمتها على بضعة آلاف من الدولارات، كما أن راتبه التقاعدي خسر قيمته، فانحدر من ألفي دولار أميركي إلى مئة دولار. بالنسبة إليه، لا يحق لأحد التذمر بسبب جواز سفر، أو بضعة آلاف ضاعت في البنوك، بعدما خسر هو حياة بأكملها.

كان راتب محمد، المهندس في الخليج مرتفعاً، كذلك راتب زوجته التي عملت معه في الشركة نفسها. يقول: "أين أذهب بالمال؟ كنت أرسله إلى المصارف في لبنان". كل ما جناه على مدى أعوام، ضاع هباء. بالنسبة إلى شاب في بداية الثلاثينيات من عمره، فإن له القدرة على الانطلاق مجدداً وتعويض خسائره، لا بأس، لن تكسره خسارة واحدة مهما كانت كبيرة، لكنها تبقى خسارة.

لا ينطبق الأمر نفسه على المهندس علاء. فبعد أربعين عاماً من الغربة في الخليج، وادخار الأموال في المصارف اللبنانية، بدأ تنفيذ خطط تقاعده في العام 2019، حين انهار كل ما بناه أمامه.

مازن رجل عصامي، بدأ حياته من الصفر، نزل من البقاع إلى بيروت في عمر الثامنة عشرة، عانى الفقر، الحرمان، عمل بجدّ، تسلق السلّم درجة درجة، لم يذل نفسه يوماً لأحد، لم يمد يده لأحد. بعد عشرين عاماً، في بدايات الأربعينيات من عمره، كان أصعب ما فعله في حياته هو اتصاله بصديق له في "حزب الله"، طالباً منه تزويده ببطاقة "سجاد" ووضع اسمه في لائحة المستفيدين من الحصص الغذائية بعدما خسر راتبه قيمته.

ربما يكون أكثر المتضررين من الأزمة هم الشباب الذين تترواح أعمارهم بين الخامسة والثلاثين والخمسين عاماً. هؤلاء الذين انهار كل ما بنوه، والآن لا يعرفون كيف يبدأون مجدداً، لا يملكون الطاقة لكي يعيدوا الكرّة. شعور باللا جدوى والاستسلام يسيطر عليهم. محمد، واحد منهم، صاحب استديو تصوير. ترك الغربة منذ زمن بعيد وقرر الاستقرار في لبنان، في قريته الصغيرة في الجنوب. لا يعرف إن كان قراره ذاك صائباً، أم أن أقرانه الذين هاجروا إلى إفريقيا وأوروبا قد تفوقوا عليه وكانوا أذكى منه.

انتسب علي إلى "حركة أمل" منذ أن كان في عمر المراهقة. مزيج من الايمان بالقضية والشعور بالقوة، ومزيج من المصالح، بعد فشله في الحصول على وظيفة في أي من الأسلاك العسكرية التي تقدم إليها، بسبب ضعف الواسطة، كما يقول. تدبرت له "حركة أمل" وظيفة بسيطة، بوّاب في إحدى مؤسساتها. الشاب الذي لطالما كان وفياً للحركة، اتصل بصديق له في "حزب الله" سائلاً إن كان يستطيع الانضمام إلى صفوف الحزب، فالرواتب هناك بالدولار الأميركي.

في سيارة ريما، علبة رذاذ الفلفل. هناك واحدة أيضاً في حقيبة يدها. لا تقود سيارتها إلا خلال النهار وتتحاشى الدخول في طرق الضاحية الجنوبية أو أي طريق تخلو من المارة. صديقها رامز، أوصى أحد أصدقائه أن يتدبّر له مسدساً. لا يهمه النوع والحجم، وإن كان يفضله صغيراً ورخيص الثمن، المهم أن يكون قادراً على القتل. الهدف هو حماية نفسه من اللصوص وقطّاع الطرق. كما يفكر بشراء كلب حراسة.

تعيش زينب وعائلتها على الإعانات، تنتظر وصول المساعدات من أقاربها الميسورين، أو المغتربين في الخارج. اسمها في لائحة المستحقين لدى الأحزاب والجمعيات الذين يوزعون الحصص الغذائية. تقول بأن المشكلة ليست في الطعام، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، المشكلة في رداءة كل شيء، الكهرباء، الاتصالات، أسعار المحروقات. تقول بأن العائلة تدور على بيوت الأقارب الذين اعتمدوا أنظمة الطاقة الشمسية، للاستحمام، بسبب عجزها عن الحصول على المياه الساخنة في منزلها.

خلال تنقلي بين شارعَي بدارو والحمرا، مروراً بكورنيش المزرعة، فكرتُ بأنني لو أعطيت كل متسول أصادفه ألف ليرة لبنانية، فإن المبلغ الإجمالي الذي سأدفعه قد يبلغ مئات الآلاف.
مجتمع من المتسولين، من الفقراء، من المكسورين، المحطمين، المصابين بالاكتئاب. عدمية حقيقية، ليست كتلك التي كانت قبل الأزمة. ليس يأساً برجوازياً، بل هو يأس حقيقي. لا معنى للفعل ولا لرد الفعل، حتى الحب أصبح كالواجب الوطني.

قمة السخرية أن هؤلاء الذين أوصلوا المجتمع والبلد والاقتصاد إلى ما وصلا إليه اليوم، يخرجون على المنابر، ينشرون لوحاتهم الإعلانية، يطلون بوقاحة أمام الناس في نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية متسوّلين الأصوات في الانتخابات المقبلة. أقل ما يمكننا فعله، طالما أننا عاجزون عن قتلهم والتنكيل بهم، هو أن نصوّت ضدهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها