الإثنين 2022/06/13

آخر تحديث: 17:58 (بيروت)

حذارِ هؤلاء المعالجين النفسيين!

الإثنين 2022/06/13
حذارِ هؤلاء المعالجين النفسيين!
لوحة إميل شامبون (1905)
increase حجم الخط decrease
قبل سنواتٍ طويلة، كان العلاج النفسي في العالم محصوراً في "المجانين". كان ينبغي أن يرى الآخرون أنك فقدت عقلك كي تضطرّ للجوء إلى معالجٍ نفسيّ. كان التحليل النفسي هو العلاج الوحيد المتاح، ولم تكن شتّى أنواع العلاج النفسي الأخرى قد ظهرت بعد. في ذاك الوقت، صار فرويد وأصحابه ملوكاً متربّعين على عرش النفس البشرية، وكانت التجارب على نفسيّات البشر في أوجّها. كان ذلك في وقتٍ غدا بعيداً جداً اليوم. تركنا فرويد من حينها، لكنه ترك لنا أيضاً آلاف المحلّلين والمحلّلاتٍ لنستعين بهم حين نصطدم بالحياة فتفقِدُنا توازننا. وكان الوعد بأن الجنون لا وجود له، وبأنه ليس سوى مفهومٍ مُخترعٍ تأتّى عن عدم فهم العامّة لما يحدث مع الشخص المعنيّ بالجنون. وكان الوعد أيضاً بأننا، متى أنجزنا سنوات التحليل النفسي المفترضة، سنصبح أكثر وعياً بأنفسنا وفهماً لرغباتنا ومشاعرنا، وسنتحكّم أكثر في مصائرنا.

إبدال "اللّه" بال"لاوعي"؟
تَطَوَّرَ التحليل النفسي في أوروبا إذن، ومنها وصل إلى الولايات المتحدة وأميركا اللّاتينية، وإلى بلدان البحر الأبيض المتوسّط، ومن بينها لبنان الذي عرف أوّل جمعية للمحلّلين النفسيّين في العالم العربي العام 1980، وتواترت من بعدها الجمعيات المتخصّصة، وآخرها التجمّع اللبناني لتطوير التحليل النفسي الذي تأسس العام 2009. لم يعد التحليل النفسي محصوراً في "المجانين"، لكنه لم يحرز أيّ تغلغلٍ عميق في المجتمعات العربية خارج حوض المتوسّط. وكان الباحث فتحي بن سلامة قد اقترح، في كتابه "الإسلام والتحليل النفسي"، تفسيراً دينياً لضعف انتشار التحليل النفسي في العالم العربي، باعتبار أن المجتمعات الإسلامية رفضت إبدال "اللّه" بالـ"لاوعي". علماً أن التحليل النفسي انتشر في السنوات الأخيرة في بلدان مسلمة بغالبيتها كتركيا، لكن مردّ ذلك قد يكون انفتاح تركيا على أوروبا والمجتمعات الأوروبية.

وسرعان ما صار السؤال الأبرز في مجال العلاج النفسي حول العالم (لا سيما في الولايات المتحدة): "حسناً، لقد حلّلنا الشخص وربطنا شتّى أموره الحياتية والنفسية بعضها ببعض وفهمنا بعض أسباب حالته، لكن كيف نساعده ليشعر فعلاً بالتحسّن؟ كيف ننتقل من الفهم والتحليل إلى الفعل والتحسّن، وكيف نعين الشخص على التحكّم إلى حدّ ما في مصيره؟". فجاءت أساليب علاجيّة جديدة مثل العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي الديناميكي، وصولاً إلى تقنية إبطال الحساسية وإعادة المعالجة عبر حركة العينين (emdr)، وغيرها من الوسائل العلاجية التي رغم إثبات نجاعتها، لم تتوصّل إلى الحلول محلّ التحليل النفسي بشكلٍ تام. 

لبنان البطريركي..ولو قصدتم مُعالِجةً بدلاً من مُعالِج
شهد التحليل النفسي تراجعاً شديداً حول العالم، لا سيما في أميركا، لكنّه ما زال متجذّراً كأساسٍ للعلاج النفسي في بلدان عديدة ولبنان من بينها، حيث من المرجّح أن يُقترح عليك اسم محلّل نفسيّ إذا طلبت مساعدةً نفسية، هذا طبعاً إن لم يتمّ الاكتفاء بتحويلك إلى طبيبٍ نفسيّ يصف لك أدويةً تتناولها لسنةٍ أو سنواتٍ، بعد أن يحدّثك لساعةٍ واحدةٍ في الشهر كحدّ أقصى. ولا يعني ذلك أن العلاج السلوكي المعرفي أو الأنواع العلاجيّة الأخرى ليست متوافرةً في لبنان.

وهكذا، في لبنان الأبوي والحرّ في آن، وقعتُ على محلّلتي النفسية، وعاد إليّ الأمل في أن أتحكّم أكثر في مصيري. لم أكن قد فقدت عقلي حينها، لكنني كنت قد اصطدمت بالحياة، فاختلّ بعض توازني، فتذكّرت "وعد" العلاج النفسي وسعيتُ إليه. لم أكن في حينها مطّلعةً على مختلف أنواع العلاج النفسي، ورضيتُ بما وجدته، من دون أيّ نقاش حتى بيني وبين نفسي. لم أتخيّل للحظةٍ، حتى حينها، أن ينتهي بي المطاف إلى كتابة هذه المقالة للتنبيه إلى الإساءة التي يمكن أن يتعرّض لها المرء في التحليل النفسي في لبنان، إذا لم يُحسن اختيار المُعالجين، وإلى ضرورة التنبّه إلى بعض علامات الإساءة الصادرة عن المُعالج أو المُعالجة، لا سيما إن كنتِ امرأةً. في هذا النصّ، سأركّز على الإساءة التي قد تصدر عن المعالج تجاه المرأة، بحكم تجربتي الخاصّة كامرأة. وسأعطي أمثلةً حدثت معي ومع معالجتي التي حدث (بخياري) أنها امرأة. وليس ذلك مدخلاً لأيّ تعميمٍ يخصّ المُعالجات النساء بشكلٍ عام. علماً أن النوع الاجتماعي هنا مهمٌّ، لأن جذر الإساءة بطريركيّ أبويّ بطبيعته، وهو أخطر أنواع الإساءة غير الجسدية لأنه مبنيّ على السلطة والإخضاع، ويصبح طعمه أكثر مرارة حين يصدر عن امرأةٍ. 



السيناريو الإيجابي 
تختار المرأة منّا معالجةً نفسيةً أنثى، على أمل أن يكون التفاهم بينهما أقوى، ذلك أن المتوقّع أن تكون المرأة أكثر فهماً لقرينتها المرأة، بحكم التشابه البيولوجي والهورموني والاجتماعي. هناك في العيادة النفسية، تستلقي وتطلق العنان للاوعيها. هناك تستسلم للمشاعر، وتتخلّى، إرادياً وبحكم الرغبة في "التحسّن"، عن دفاعاتها كلّها (لا يحدث هذا مباشرةً بالطبع، لكن العلاج النفسي يستلزم الصراحة التامة وهو ما يستغرق وقتاً قبل أن يتحقّق، ويصبح هذا الارتياح وهذه الثقة من أهداف العلاج في حدّ ذاته لمَن لا "يثق/تثق" في الآخرين أساساً). إذن، تستسلم الواحدة منّا لكنبة التحليل بكامل إرادتها، وتأخذ يدَ محلّلتها التي ستعينها على إيجاد الطريق نحو "العلاج". عندها، تتضافر جهود المُعالَجة والمعالِجة وتُبنى الثقة، وتنتج عن التحليل النفسي اكتشافاتٌ كثيرة يساعد فهمها في تخطّي بعض المصاعب الحياتية التي قد يتسبّب المرء فيها لنفسه بشكلٍ غير واعٍ. في هذا السيناريو، تجري الأمور كما يشتهي الطرفان، وتكون النتيجة إيجابية، وإن لم تؤدِّ بالضرورة إلى حلّ كلّ المشاكل التي تواجه الساعي/ة إلى العلاج. 

سيناريو الإساءة
لكن حذار، فثمة سيناريو آخر قد ترتعد له الفرائص إذا استمرّ، وهو سيناريو الإساءة الصادرة عمّن سُلِّمَ(ت) زمام صحّتك النفسية. لذا أجد من الضروري التنبّه له، ومناقشته مباشرةً مع المعالج/ة، وإن لم ي/تستجب فعليك بالانسحاب مباشرةً. أذكر أنني مرّةً ناقشت شيئاً أزعجني، فكان ردّ معالجتي بأنني لا أتمتّع بأيّ حسّ فكاهة. لم أتوقّف عند هذا الأمر طويلاً، لكني أعترف اليوم أنني أخطأت وقتها، لأن من يعتمد التنمّر ردّاً على مشكلةٍ مطروحةٍ، مسيء... وإن أنكر! ليس على المُعالج تقييم حسّ الفكاهة لديك (ولا أيّ حسّ آخر)، فالأحكام مطرحها خارج العيادة النفسية، وهدف زيارتك لمُعالجٍ ليس بالطبع إطلاق النكات.

تعليقٌ جنسيّ؟
إذا صدر عن المعالج/ة تعليقٌ جنسيٌّ متعلّق بشكلك، عليك الابتعاد. قد يتصوّر المرء أن أمراً كهذا حكرٌ على الرجال، بمعنى أن النساء لن يُطلقن تعليقاتٍ جنسيّةٍ متعلّقةٍٍ بشكل نساءٍ أخريات، لكن ذلك ليس صحيحاً البتّة. اعتبرَت مُعالجتي أن شكل فمي يوحي "بالعضّة"، ثم أضافت بعد صمتٍ قصير إن لشفتيّ شكلاً يستفزّ الرجال، وعليّ أن أعمل لأصحّح شكلهما. قالت جملتها بكلّ وضوحٍ ومن دون أيّ تردّد، فعلى المرأة أن لا تستفزّ الرجال، حتى بشكلها. هذا ما وصلني منها وإن لم تقله حرفاً بحرف. في هذا السياق أيضاً، فتحت لي الباب ذات مرّةٍ لتجد شعري "مملّساً"، فقالت لي بلهجة المفوّضة أشكال الناس، بأن عليّ المحافظة على شعري أملس لأن شعري "الكورلي" مستفزّ في رأي بعض الرجال الذين يربطون بين الشعر والتحرّر الجنسي، فيعطون أنفسهم حقّ التحرّش مثلاً! تحدّثت عن ذلك عرضياً من قبل في مدوّنة "كيف لصاحبة الخصلات الملكلكة أن تجهد لتُفقدها جمالها؟". هكذا حاوَلَت مُعالجتي تجريدي من المظاهر "الجنسية" في شكلي، ودفعي إلى التلاعب بطبيعة مظهري، "حمايةً" لي من الرجال الأبويّين الذين تفوّض بعض النساء أنفسهنّ واجب حماية هيكلهم وتمتين ترسّخه في عقول النساء. 

إهانة أم تصرّف مهين؟
إذا صدر عن المُعالج/ة تصرّفٌ أشعرك بالإهانة، عليك الثقة في حدسك والمواجهة. والمواجهة لا تعني أن يحتدّ المرء أو يعيد الإهانة، بل أن يستفسر عمّا قيل وأسباب قوله. وعليك انتظار إجابةٍ مقنعة، وإلا فالانصراف هو الحلّ الأفضل. ليس من الطبيعي أن تصدر عن المعالج كلماتٌ أو تصرّفات تثير فيك مشاعر مسيئة من دون أن يتمّ التطرّق إلى ذلك وتفسيره. الهدف من العلاج النفسي هو التوصّل إلى مستوى من الراحة مع مشاعرنا، ويمكن لأيّ شخصٍ أن يجزم بسهولةٍ قصوى أنه لا يحقّ لأحد الإفادة من مشاركتك مشاعرك ليهاجمك، فكيف بالمعالج الذي يُفترض به أن يساعدك على فهم هذه المشاعر والتعامل معها بشكلٍ مفيد؟ حدث ذلك مرّتين على الأقلّ، خَرَجَت فيهما المعالجة عن الإطار المهني للجلسات، فطلبت إليّ الجلوس قبالتها، وأخبرتني إلى أيّ حدّ لا تستطيع أن تطيق سماع ما أقوله. في المرّتين، صدّقتُ أن ما أقوله مريع، وأنه يستأهل هذا الخروج عن "الطور" العلاجي. غالباً ما تتسرّب الإساءة تحت عنوانٍ "رعائيّ"، فما ستقوله لي لا ينبغي أن يصدر عن مُعالِجة، وهي تدرك أنها تخرج عن الإطار الصحيح للعلاج، لكنها ارتكبت هذا التجاوز لأنني أخرجتُها عن طورها بكلامي غير المنطقي. إساءةٌ مزدوجة في آن، ذلك أنني حُمِّلتُ أيضاً مسؤولية غضبها.

استخفافٌ بحاجاتك؟
إذا استخفّ المُعالج بحاجاتك، ففي هذا إشارة سيّئة. ثمة قواعد يضعها التحليل النفسي، من بينها ضرورة التنبّه، مع الشخص المعنيّ، إلى الأوقات التي يحتاج خلالها هذا الشخص إلى دخول الحمّام مثلاً، فهذه الحاجة قد تتزامن دائماً مع موضوعٍ محدّدٍ، ما قد يعني شيئاً مفيداً للعلاج. إذن، الهدف في هذا التركيز يصبّ في مصلحة الشخص المعنيّ بالعلاج. لكن أن تُتّهم مثلاً بأنك تدخل إلى الحمّام في كلّ مرة، قبل الجلسة أو بعدها، لأنك تريد الاستحواذ على "المنطقة الخاصّة" بمعالجك، فهذا موقفٌ غريبٌ لأن العلاقة ليست صراعاً أو منافسةً، لا سيما على الأرض. أو أن تكون من قليلي وقليلات الحظ في هذا العالم المصابين بحساسية على الشمس والأضواء الساطعة، فيوجَّه إليك اتّهامٌ مباشرٌ بأنك تحاول أن تكون مختلفاً عن الآخرين وأن عليك التوقّف عن محاولة التميّز وطلب إغلاق الستارة الخفيفة، وإن كانت الكنبة مواجهة للنافذة، وإن كانت الجلسة أيضاً في توقيتٍ تكون فيه الشمس في وجهك مباشرةً. 



لا رأي فوق رأيك!
أسوأ ما يمكن للمعالج النفسي فعله مع طالب العلاج، هو تكريس مفاهيم خاطئة في ذهنه. تُقدِم حارسات الهيكل الأبويّ وحرّاسه على ترسيخ مفاهيم مغلوطة قد تؤخّرنا نحن النساء لسنوات. أن تحاول معالجتكِ إقناعك بأن ناطور البناية حاول "زركك" في المصعد بسبب شكلك مثلاً، أو لأيّ سببٍ يصوّب الإصبع نحوك مباشرةً ويبرّر للمتحرّش، هو إساءةٌ لا يمكن السكوت عنها، وعنفٌ معنويّ تحاربه المنظّمات الحقوقية النسوية وغير النسوية في أنحاء العالم. لكن ثمة مُعالجات في لبنان ما زلن متمسّكات به، ولا أعرف عددهنّ في الواقع.

لا يحقّ للمحلّل النفسي تحديداً أن يفرض رأيه الشخصي في أمرٍ يخصّك، أو أن يقنعك أو يحاول التأثير فيك لاتخاذ قرارٍ ما لم تحسم أمرك تجاهه. وإذا بدر عنه عكس ذلك، فاعلم أنك لم تقع على معالجٍ مسؤول، فقرارات المرء خاصة به، وينبغي أن تصدر منه عن قناعةٍ، وليس لأن المحلّل ارتأى ذلك. يساعدنا المحلّل في إزاحة الضباب الذي قد يغشى عيوننا أحياناً، لكن عيوننا نحن هي التي سترى، دون عينيه أو عينيها. نميل نحن البشر إلى الاستسهال، ومَن أفضل من الخبّاز لاتخاذ القرارات الخاصة بالخبز؟ لذا تجدنا نحاول الرمي بقراراتنا على الآخرين: فليقرّر المعالج عني، أليس هو الأدرى؟ أيّ محلّلٍ نفسي يستجيب لهذا الاستسهال يمكن التشكيك في التزامه بأصول مهنته الدقيقة، وإن كان الألمع، في بلدٍ مثل لبنان.

هذه إحدى المقالات التي يتردّد المرء قبل كتابتها. مردّ التردّد أنني عرضت فيها تجربةً خاصّةً جداً، ومردّ الكتابة أنها رغم خصوصيّتها الشديدة، عامّةٌ جداً في آن، وتخصّ نساء مثلي أينما كنّ، في أيّ بقعةٍ جغرافيّة من هذا العالم الذي لم يكن يوماً مثالياً، لا سيما تجاه نسائه. ومن هنا ضرورة الكلام بصوت عال، لا سيما في سياق التحليل النفسي، حيث يتطلّب الأمر إسقاط الدفاعات، فتتسرّب الإساءة بلا معوقات تُذكَر! فلنحلّل نفسياتنا كما نريد، لكن لتثق كلّ منّا بحدسها، ولتكن التجربة إيجابية، إذ أنها ينبغي أن تكون كذلك. ولنُدِر ظهورنا الجميلة ونمشي حين نتعرّض للإساءة، ولنترك حارسات الهيكل وحرّاسه وحيدين ووحيدات على عرش الإساءة البطريركية… 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها