الأحد 2022/07/31

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

مَن له أذُنان للسّمع فليسمع

الأحد 2022/07/31
مَن له أذُنان للسّمع فليسمع
(رسم: Merijn Hos)
increase حجم الخط decrease
تهدأ الأمواج، يُعيدني إلى سريري ذلكَ الصَّخبُ الذي تُحدثه الدراجةُ النارية القديمة لجارنا الجديد، أَستيقظ تماماً. يَشدني صوتُ قرقعة إلى المطبخ... يُعدُّ زوجي القهوة. تدخل أغاني فيروز إلى مَطبخنا مع نسائم الهواء، رغم أني توقفت عن سماعها منذ سنوات طويلة... ثلاثة عصافير تحط على أسلاك الكهرباء، تُراقب حبات القمح التي توزعها ابنتي الصغرى على الدرابزين كلّ يوم منتظرةً قدومها، لكنها تطير فجأة، تدخل الشجرة القريبة، تزقزق بنغمات حادة قصيرة، لم أعد أراها الآن... أسمع صوتها.

قبل صاحب الدراجة النارية، عائلة كبيرة سكنت الشقة، نزحت إلى هنا خوفاً من أصوات الرصاص والقذائف والصواريخ، وقبل أن ينهار البيت فوق رؤوسهم قرروا الرحيل. كان أبو بسام، الأب، يمتلك شاحنات يقودها بمهارة خيّال. غالباً ما كان يجلسُ في هدأة الغروب تحت شجرة قريبة منتظراً ومحدقاً في الأفق باتجاه بلدته، وكأن أنسام الريح الآتية من هناك تخفف وجع الحنين. اثنان من أولاده كانّا أصمين تقريباً، عبير وعمر، عبير كبرى بناته، كانت تخجل من التلويح بيديها في العلن، لذا بقيت طوال تلك السنوات وحيدة ومنعزلة. أما عمر فكان لا يبالي بشيء، بل يُمضي يومه متجولاً في الخارج مبتسماً ضاحكاً. لا أنسى عصر ذلك اليوم حين أمطرت رصاصاً وهم يلعبون، آنذاك ركض الأخوةُ مذعورين مسرعين إلى منزلهم، وحده عمر بقيَ غير منتبه حتى استدارَ، ليُفاجأ بنفسه وحيداً، ويركض مذعوراً مثلهم إلى المنزل. انتظرَ عمر طويلاً سمّاعات أذن متطورة أرسلها أحد أقاربه من الخارج، لكنها لم تصل، بل اختفت على الحدود.

"مَن له أُذنان للسمع فليسمع" تُعاد مراراً في الكتاب المقدس. السمع هو وسيلتنا الأهم للإدراك، للمعرفة وللفهم، وللنجاة. لا تسمع الأذن البشرية سوى ترددات محدودة، أما الحيوانات فتمتلك حاسة سمع حادة، وعضلات لتتمكن من تحريك آذانها. يقول لي ابني الأكبر، المُولَع بعالم الحيوانات، أن تلك العضلات ليست سوى أعضاء أثرية لدى الإنسان. فرقعات ألعاب نارية، ما تبقى من مؤونة العيد، بعدما أُنهكت أسماعنا من الانفجارات، من أصوات ألعاب يبيعها أطفالٌ للأطفال، من ملايين الليرات التي تلاشت في الهواء في وقت يبحث فيه آخرون عن طعامهم في حاويات القمامة. في حيِّنا نفسه، دفعت مَوجة غضب، طفلاً في العاشرة أثناء اللعب بالألعاب النارية، إلى العودة لمنزله، وإحضارِ قنبلة يدوية رماها على رفاقه. لم يشتر أولادي ألعاباً نارياً بعدما شاهدوا عند المغيب أسراب عصافير تَنطلق بسرعة خائفة ومتخبطة في الهواء، تبحث عن مكان آمن من أصوات الانفجارات.

يدور "فوبوس ودايموس"، الخوف والغضب، قمران حول آريس، المريخ، كوكب الحرب كما سمّاه الإغريق. الخوف والغضب أبناء الحرب، وبقاياها، يجذبان المريخ وينجذبان إليه، ولا صوت يصل إلينا منهما، ولا من كل هذا الفضاء المذهل واللانهائي. وحده الإنسان، ذلك المخلوق متناهي الصِّغر يثير كل هذا الضجيج والصخب. "إنها حكاية يحكيها معتوه، حكاية مِلؤها الصخب والعنف، ولا معنى لها"، يقول شكسبير في "ماكبث". وكأننا لم نكتف بعد من أصوات الرصاص والقذائف والصواريخ، من صوت الموت، ها نحن نَستحضره ثانية، احتفالاً بزواج، بعودة مخطوفين، بمُصالحات، وبنجاح أطفال في الشهادات المدرسية! ما أغرب هذا المكان الذي يفرح ويغضب بالطريقة نفسها!

لا أُميّز أصوات الرصاص من أصوات الألعاب النارية، يقول أبي، الذي صرت أحياناً أُعيد له الجملة مرتين بتردد أعلى وبغصة مكتومة. يقول لي إنه صوت الرصاص، لم تَخنه ذاكرة الحرب بعد، رَغْم خيانة الحواس. أن تسمعَ صوت الرصاص يعني أنك نجوت. لم تسمع شيرين أبو عاقلة صوت الرصاصة الأخيرة... الصوت الذي عملت بكل استطاعتها على إسكاته وإخماده. تَرفعُ أمي صوت التلفاز لتسمع معنا نشرة الأخبار، تحمل الأمواج الكهرومغناطيسية الأصوات من كل العالم، أصوات حروب ودمار وفوضى، اضطهاد ومجاعات وموت، وثورات. يَنتفض البراد مرات متتالية، تدور الغسالة مُحمّلة بثيابنا التي وضعتها بالأمس، تتدفق الكهرباء في بيتنا، وفي الحي الذي نسكنه، يستعيد جزء من المدينة الحياة كل بضع ساعات، لساعة ونصف الساعة فقط. نداءات متكررة لبائع يَجمعُ الخبز اليابس وكراسي البلاستيك المكسّرة، تتغلغل الرياح بين أغصان الشجرة القريبة، تحركها، أسمع حفيفها وأنا أعد طعام الغداء، تزقزق العصافير مجدداً من دون أن أراها.

ينبح كلب خلف قطيع ماعز يعبر الطريق، كثيرون عادوا لتربية المواشي والزراعة بعد موجة الفقر والغلاء. تهدر حصّادة قمح بعيدة، أحدهم يحصد القمح الذي سقاه بمياه الصرف الصحي. إلى ضجيج لا يُحتمل يتحول لعب أولادي، أقترح عليهم أن يلعبوا لعبة الصمت التي اخترعتها، لعبة لا تعجبهم. حين كنا صغاراً كنا نستمتع بالصراخ عالياً بأصوات حادة، لِتعيد لنا الحجارة السوداء أصواتنا مرات عديدة، بعدها نجلس تحت شجرة البلوط نراقب المدينة وهي صامتة، ولا نسمع شيئاً سوى حفيف الأوراق فوقنا، يُحركها هواء بارد نقيٌ آت من بعيد.

كم نحن بحاجة إلى هذا الصمت الآن، صمت الطبيعة. تَجرّ الجارة في الشقة فوقنا، أثاث الغرفة، وتصرخ على حفيدها الذي لا يتوقف عن القفز. ما أثقل الحياة في هذه العلب، حياة تُجبرك على الإصغاء للآخرين، لموسيقاهم، لضوضائهم، لمشاكلهم، تُجبرك أن تستيقظَ معهم وتنام حين يكفّون عن الاهتزاز فوق رأسك. لكن، كيف تكون الحياة بلا ضجيج، بلا أصوات، بلا اهتزاز، وكل شيء في الحياة هو اهتزاز، يقول ألبرت إينشتاين. في فيلم "بابل"، نمشي في شوارع طوكيو مع الفتاة الصماء، نرى ما ترى ولا نسمع شيئاً، مثلها... صمت كامل، وكأنه العدم. كيف ستكون الحياة حينئذ؟ كيف ستكون؟... من دون أن نسمع هديل حمامة عند الفجر، صوت ماكينة الخياطة في صباح أول أيام العيد تضع لمساتها السحرية الأخيرة على ثيابنا الجديدة ونحن صغار، آذان المغرب، الكلمات الأولى لأولادنا، ضحكاتهم، عزف ابنتي الوسطى على الكمان، صوت البوق الذي صنعه ابني ليُطمئنني أثناء لعبه على دراجته الهوائية، كيف ستكون الحياة من دون أن نسمع شوبان؟ اهتزاز الجوال ينقل أصوات أحبائنا البعيدين، صوت الرياح الباردة في فيلم Revenant وكأننا نحن من يجتازُ رحلة العودة، تلاطم أمواج البحر، استهلال المطر.

حاسة السمع، الحاسة التي لا تتوقف عن العمل حتى أثناء أحلامنا وكوابيسنا، كانت حاستنا الأهم للتواصل، لنقل المعرفة والحضارة، وللبقاء. تتزايد أصوات الألعاب النارية مساءً، يتخلخل الهواء حولنا، يُعلن مكبّر الصوت المتنقل في أحياء المدينة عن موت جديد، خطوات أشباح يعبرون الطريق أمامنا. لا شيء يُثبت أننا أحياء في هذا الظلام سوى أصواتنا! صوت دراجة نارية يخترق الهواء، لِيبدأ الصخب مجدداً، تنظيفها وتجريبها وإصلاح أعطالها وتجهيزها ليوم عمل جديد، إدخالها إلى شقة الطابق الأرضي خوفاً من سرقات تحدث كل يوم في هذه المدينة... صوت عجلات شاحنة فارغة تتدحرج في طريق العودة...عواء كلاب قريبة... بُكاء رضيع... طَنين أجنحة بعوضة... دقات ساعة الحائط... يغمرني النعاس كأمواج...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها