الثلاثاء 2022/07/26

آخر تحديث: 22:38 (بيروت)

قصيدة الجسد والتغير المناخي...

الثلاثاء 2022/07/26
قصيدة الجسد والتغير المناخي...
"شمس الصباح" (لوحة إدوارد هوبر)
increase حجم الخط decrease
انشغال معظمنا بصُور تليسكوب جايمس ويب، لم يشمل آخرين منا وقعوا تحت تأثير موجة الحر الشديدة التي شملت بلداناً في أوروبا. أشد منها، تلك التقارير التي رافقتها عن التغير المناخي. لم تشأ أن تفسر لنا فقط أن أحد مظاهره هو هذا الحرّ الذي يأتي كل صيف لفترة وجيزة، إنما بحدة غير معهودة، بل أغرقتنا بالتحذير من الآثار الكارثية للاحتباس الحراري ومفاعيله على صحتنا النفسية.

قد لا يقلقنا التفكير في أن كوكبنا سيقضي حريقاً. نسخر قائلين: من منا سيحيا ليشهد وصول حرارة الأرض إلى أربع درجات مئوية؟! لكن مَن منا يحتاج إلى عوامل إضافية خارجة عن نطاق سيطرته، كفرد هزيل في خضم سياسات تقرها دول وتتشابك فيها وحوش المال والتكنولوجيا، لتؤجج صراعه كل صباح ومساء. نحن بالكاد نحمل نفوسنا التعبة، وننتقل بها بين شؤون حياتنا اليومية وعلاقاتنا الملتبسة وتساؤلاتنا الوجودية، راكضين وراء مهمات مهنية، لا تحمل لنا إلا راتب نهاية الشهر لقضاء حاجات نعتقد أنها ستساهم في إبقاء أجسادنا وعقولنا متوازنة وعائمة.

أقرأ تقرير منظمة الصحة العالمية، وألتفت إلى مقتطف منقول عن خبير مناخي في تقرير آخر يخبرنا فيه كيف أن الناس ستبتعد عن المدن أكثر فأكثر، وكيف لنا أن نبحث عن منازل أوسع خارجها، وكيف أن من يبقى حبيسها سيخضع لموجات من مشاكل بين الأفراد والعائلات وستتدهور صحته النفسية. أقرأ وأقلق.

إن كنتَ مهاجراً، منفياً، ستسعى لتكون في البقع الأكثر تنوعاً، بدلًا من السكن في مكان من لون واحد يلفظك بشكل دائم وعلى نحو متكرر. ستعيش المنفى ملوناً في المدن، حيث الناس كلهم غرباء مثلك. لا غريب بين الغرباء. إذًا، أمرك محسوم، أنت من سجناء المدن الذين سيخضعون لاختبارات متتالية جراء التغير المناخي.

ماذا الآن؟ تتساءل... ماذا ترسم الآن في سماء هذه المدينة لتصبح أكثر لطفاً وحُنواً عليك؟ هل يكفي صوت لويس آرمسترونغ لمنحك بعض الطمأنينة وهو يغني What a wonderful world؟ معه ربما يصبح التهيؤ أرحم وألطف، وإن حَملَك إلى رحلة تذكُّر مريرة...

سأرسم شمسًا على الحائط. رددتُها، قبل خمسة عشر عاماً في سرِّي، مراراً، كما رماها على مسمعي زميلي الذي لم يزر لندن أبداً، لكن بدا له أن التذمر من خجل الشعاع الدافئ في تلك المدينة ترفٌ لا نملكه. فحرب تموز وما تلاها من "بروفات" 7 أيار، كانت محورية في حرف قلوبنا عن تشبث ما عاد سهلاً، بل أصبح مؤذياً. إذاً، لم يعد تنوع الطقس عامل جذب كافٍ للبقاء ومواصلة كفاح العيش في البلد. مسار انتقال مهني لاح في الأفق، قادني إلى الطقس البارد والسماء الرمادية. لملمتُ عدم جهوزيتي للتخلي عن الارتياح لجو مشمس ومعتدل، ولاقيت الطقس الماطر صيفاً.

ارتطم جسدي بعوامل الطبيعة كلّها دفعة واحدة. السنوات الأولى من البرد، طالَت أكثر مما يجب. لا في الشارع ولا بين جدران المنزل، عرفت كيفية الاستعداد للمواجهة. مهمة صعبة لمن لا يحب البلل، ولم يكن كافياً أن أدفع حبات المطر عني بكلمات مرتجفة من البرد: لا أمانع البرد طالما أن الشمس مشرقة ولا مطر...

تهت كثيرًا قبل أن أهتدي إلى الملبس الذي يدفئني من دون أن يرميني خارج سياق معايير الموضة... مرت سنوات، بدت طويلة جداً، إلى أن عرفت كيف أبعد كتفيَّ عن صدري... ظننتهما خير رادع للبرد عني، حتى أصبحت لي عادة، حتى وأنا أتنقل بين الغرف المتلاصقة في المنزل الضيق، أبقيهما قريبين وأترك رأسي حراً في الانزلاق بينهما ليردَّ الخوف... هل سيجعلني هذا الطقس حدباء؟

بذلت جهداً كبيراً لأستعيد إمكانية التماري المتمهل والنظر إلى جسدي فيما أبدّل ملابسي.
لم أكن أعرف كيف يمكن للبرد أن يحرمنا اختبار أجسادنا والتمتع بها على أبسط نحو...

صدمات التغير المناخي توالت على جسدي ونفسي لسنوات، إلى أن حفظت ألف باء الإسعاف الأولي للصحة النفسية. وجبة من الفيتامينات، فاتورة كهرباء تناسب ضرورة الإنارة الداخلية في كل وقت، لاستبدال الضوء المفقود... وأشياء أخرى...

تبين أن هجسي بالشمس في محلِّه، لكن بقدر أقل مما اختبرته بالفعل في هذه المدينة التي استحقت عن جدارة لقبها، مدينة الضباب، ومع ذلك ربما يصح فيها القول: مدينة شتاء لامتناهٍ. كان ذلك قبل أعوام، قبل أن نبدأ، بتهكم، مناشدة الملوثين الإكثار من تلويثهم لتتحرر الشمس هنا من قيودها، فتخرج علينا ويرحل البرد مهابتها. هل سُمعت صلواتنا فكانت الإجابة عقاباً من نوع آخر؟

ماذا ستصبح الآن؟ مدينة الجحيم؟ هل نرمي كلَّ احتفائنا السابق بأشعة الشمس الخجولة، وننبذها الآن كلما أشرقت؟ هل نعود إلى غرفنا المظلّلة بكآبة من كل صنف ونوع هرباً من الشمس؟ وقفت كثيرًا في السنوات الماضية عند شباك المطبخ أحاكي الشمس، أدعوها للخروج من عزلتها، كتبتُ الشعر فيها... لكن هذا الجِلد اعتاد البرد، على ما يبدو، وأصبح يتوهج ارتباكاً منها، إن سطَعت على غفلة. هل أبدأ قصيدة جفاء معها؟

ماذا أرسم الآن على حائطي؟ نسمة عليلة، عريشة الدار في القرية لأتفيأ في ظلها؟ هل بعدما اعتدتُ الطقس هنا واهمة، سأبدأ رحلة جديدة من التكيف؟...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها