الإثنين 2022/04/11

آخر تحديث: 14:35 (بيروت)

أزمة منتصف العمر "الوهميّة" تقترب

الإثنين 2022/04/11
أزمة منتصف العمر "الوهميّة" تقترب
"الأعمار الثلاثة للمرأة" لغوستاف كليمت
increase حجم الخط decrease
لا أتعامل مع مفهومَي العُمر والزمن بشكلٍ طبيعيّ. شعرت بهذا مؤخّراً، حين صرخ صديقٌ ستينيّ في وجهي (عبر ميسنجر، لكني عرفت بفطرتي أنه صرخ لحظتها) بأن أتوقّف عن المبالغة في حديثي عن العُمر. شعرت بأني أسرق منه سنواته التي تعب حتى بلغها، واستغرقتُ بعض الوقت لتحديد ردّ فعلي. هو صديقٌ عزيز، لذا كنت أعلم يقيناً أنه لم يقصد إزعاجي، وأن إحساسي بالتقدّم في العمر استفزّه، فردّ كما ردّ أبي مرّةً حين بالغت في التأثّر بمشكلةٍ "صغيرةٍ" واجهتني. 

مرجعية المشاعر
حينها قلت لأبي: "شو بدّك يصير بعد أكثر من يلّي صار؟"، فجاء جوابه قاطعاً وحادّاً حدّة جرس الإنذار حين يخترق أذنيك. كنّا للمفارقة أمام باب المنزل، نهمّ بقرع الباب للدخول. نظر إليّ باستغراب شديدٍ، وقال بلهجةٍ مستهجنةٍ أقصى درجات الاستهجان: "وشو هالقصّة العظيمة هيدي، فيقي يا عزّة". استفقتُ لحظتها لأنه بِردِّه طمأنني إلى أنه متأكّد من عدم أهمية مُصابي وكان هذا كافياً. هذا ما نفعله حين نحبّ، نبرّر لمن نحبّهم أيّ استهتارٍ غير مقصودٍ بمشاعرنا ونعيده إلى أسبابٍ أسمى بطبيعة الحال، ونكرّس مرجعيّة مشاعرنا، فنشعر بما يُطلب منّا أن نشعر به وننهي الموضوع.

هكذا الأمر أيضاً في ما يخصّ العُمر. ألّا أكون قد أنهيت العقد الرابع من العُمر، يعني بالضرورة ألّا أبوح بما يخطر في بالي في ما يتعلّق بالموضوع، لا سيما لرجلٍ ستّينيّ. ما زال أمامي أكثر من عشرين عاماً لأبلغ عُمره، ولا أعلم لماذا يجدها صديقي زمناً طويلاً، ذلك أنها تبدو لي مغرقةً في القلّة، لا سيما الآن. حدث شيءٌ ما مؤخّراً لا أعلم ما هو، جعل الزمن يأخذ بُعداً مختلفاً. فجأةً تنبّهت إلى ذلك… إلى أنني خرجتُ نهائياً من تلك الحقبة التي يمرّ فيها الوقت ببطء، حين كانت الأيّام تحمل إمكاناتٍ لامتناهيةً، وحين كان في مستطاعنا إضاعة ما نشاء من الزمن. 

الزمن والكتابة
ما زال أمامي الكثير لأُنجزه. روايتي لم تكتمل بعد، والأنكى أني لم أتمكّن من تغيير أيّ شيءٍ على الإطلاق. ولا في أيّ مجال. لمَ ينبغي على المرء أن يغيّر شيئاً أساساً؟

ثمّة دراسةٌ تشير إلى أن العُمر الأكثر احتماليةً ليكتب المرء روايته الأولى هو السادسة والثلاثين. استندت الدراسة إلى إحصاءٍ بسيطٍ أظهر أن غالبيّة الروائيين يكتبون روايتهم الأولى وهم في العقد الرابع من العمر. ثمة بالطبع استثناءاتٌ عديدة، لكنّها لا تلغي واقع الغالبية.

قد تكون تلك الرواية طريقي نحو التغيير. ثمة الكثير مما يستدعي التغيير في هذا العالم، وثمة الكثير الذي يستفزّني شخصياً، أبسَطُه ألّا يكون لي الحقّ في الحديث عن إحساسي حيال عمري. الكتابة هي دائماً الحلّ، فقد لازمتني كلّما واجهتُ مشكلة، هي وقرينتها القراءة، إذ هربت في السابق من عالمي إلى عوالم الروايات. أذكر مثلاً أني تحوّلت إلى نملةٍ حين قرأتُ رواية "النمل" لبرنار فيربير، في ذاك الزمن ذي الوقت البطيء، وكانت الروايات تبطّئه وتكثّفه أكثر. اليوم، لم يعد شيءٌ قادراً على إبطاء الوقت في نظري، إلّا الكتابة. حتى القراءة أصبح زمنها حقيقياً، لا بطء فيه، بل تسارع أحياناً (مثلما يحدث حين أضيق ذرعاً باستفاضاتٍ ما في نصّ أقرأه فأمرّ عليها بأسرع ما يمكن). لا شيء يُشعرني بمرور كلّ لحظةٍ، سوى الانغماس في عالمَين في وقتٍ واحد، عالم أعيش فيه، والآخر أعمّره كلمةً كلمة. هنا فقط يرَسخ في ذهني تعريف الوقت، كما أشار إليه جاك دريدا، هنا فقط يصبح الوقت تحوّل استحالة أن تتزامن اللحظتان الراهنتان نفسهما إلى إمكانيّةٍ أراها نصب عينيّ.

لم أعد أستطيع العيش داخل عوالم قراءاتي. والسبب أني أصبحت أدرك الوقت الحقيقي الذي أقضيه في قراءة العالم الواحد. ما الفائدة إذن، إن لم أتمكّن من الهرب أو التغيير؟

ربما كان ميلان كونديرا على حقّ حين قال إن جميع البشر يريدون أن يتحوّلوا إلى عالمٍ من الكلمات قبل فوات الأوان. "قبل فوات الأوان"، أسمعتم؟ الأوان هو الزمن، والوقت مقدارٌ من الزمن. أن يفوتك "كلّ الوقت" أي أن تتحوّل إلى عدمٍ تام، من دون أن يلاحظَك أو يسمعَ بك أحدٌ في هذا العالم اللامبالي.

نهاية عقدي الرابع تدقّ. أزمة منتصف العمر "الوهميّة" تقترب. الكلمات تترقّب هجوماً مضمَراً. الزمن يجري… هكذا بالضبط نقتل الأدب، لكأنّ كونديرا يقول. 

لمَ بات الزمن يخيفني
لم يقبل صديقي الستّيني أن وقع الزمن بات ثقيلاً عليّ، وأصبحتُ بالتالي أكثر سيطرةً على إجاباتي وخلوّها ممّا قد تحمله من إشاراتٍ إلى العُمر كلّما سألني عن حالي. صرتُ أكثر تنبّهاً مع غيره أيضاً. لا أريد سرقة سنوات الآخرين، ولا أريد استفزاز مشاعر لا تجلب المتعة لأحد.

هل ثمة عمر محدّد يصبح من بعده الزمن مخيفاً؟ منتصف العمر، على الأغلب، حين يُقال أن المرء ينتفض على سنواته ويحاول استرجاع شبابه بكلّ مظاهره. لكن طبّ النفس لا يعترف بأزمة منتصف العمر. "اختراعٌ غربيّ"، يقولون. ثمّ إن الرجال أكثر عرضةً لهذه الأزمة المفترضة. 

أزمة منتصف العمر؟
تُصَوَّر أزمة منتصف العمر "الإعلامية" بشكلٍ مختلفٍ كلياً بين الرجال والنساء. تواجه المرأة، في ما تواجهه، بدايةً، معضلة البوتوكس. معضلة الشكل. معضلة الخسائر. معضلة انقطاع الطمث. معضلة الكرش. معضلة الوحدة. ننشغل أيضاً بأزمات الرجال، فلا يتاح لنا التعمّق في أزماتنا. السنوات المقبلة تتطلّب منّي عملاً دؤوباً على شكلي، وممارسة الرياضة، والتوقّف عن التدخين "لأنه يُمهل ولا يُهمل"، على ما قال لي طبيب القلب الذي أزوره دورياً لأن مشكلات القلب موجودةٌ بكثرة في عائلتي. "عِديني بألا تدخّني أكثر من عشر سجائر في اليوم الواحد. لديك طفلان رائعان، ألا تريدين قضاء عشرين سنة معهما على الأقلّ؟". صعقتني بساطة الطرح يومها، بساطةٌ تصيب الهدف، والهدف هنا تأجيل غلبة الزمن إلى أبعد نقطةٍ ممكنة. بدت لي الأعوام العشرون التي حكى عنها قليلةً للغاية يومها.

رغم ذلك، بدا لي في جلستي الأخيرة مع صديقاتي الخمس، أن السؤال الأبدى هو: هل من تتفادى البوتوكس والفيلرز، معتقدةً أن زمنهما لم يحن بعد، أو ترفضهما رفضاً قاطعاً مع كلّ ما ليس حقيقياً، هي الأكثر تصالحاً مع العُمر؟ أم أن المرأة التي تستعين بهما، لأنها تعلم ببساطةٍ أن التقدّم في العمر يترك آثاراً في البشرة يساعد البوتوكس في تخفيفها، هي الأكثر تصالحاً مع العُمر؟ كان حديثٌ طويلٌ عن الطمث والأطفال والسنين والبوتوكس والتصالح مع الزمن، وكان يومها عيد الميلاد الخمسين لإحدى الصديقات الموجودات. 

خطوطٌ غير مستقيمة
اليوم صرت أعلم يقيناً أن الغد لن يكون بالضرورة أحلى. ستكون هناك أيامٌ أحلى من غيرها، أيّامٌ أحلى من أيامٍ مرّت، لكن الصورة العامة لن تكون أجمل. ذاك الخطّ الذي يضعه البشر على أنه الحدّ الذي من بعده سيصبح كلّ شيءٍ على ما يُرام، لم يعد رسمُهُ ممكناً. ذلك أنه يتعارض مع الخطّ الذي قد تبدأ من بعده الأمراض، على سبيل المثال. لي صديقاتٌ انشغلن بالخطوط المدوّرة التي رسمها سرطان الثدي بدلاً من حلماتهنّ. لا يجري الزمن على شكل حلقات في عالم البشر، يقول كونديرا، بل يجري ضمن خطّ مستقيم. أخطأتَ مع النساء عزيزي ميلان. خطّ المينوبوز يبدو داكناً أيضاً، وإن ذكرته بعد خطّ السرطان. هناك أيضاً خطّ فقدان الأحبّة، ذاك الخطّ المسنّن الوحشي الذي سنتعثّر به، شئنا أم أبينا، وسيقضم أجزاء من قلوبنا. خطوط التجاعيد متعارفٌ عليها طبعاً. خطوطٌ كثيرةٌ تتعارض في الفضاء الخاص بحقبة "كلّ شيءٍ على ما يُرام"، هي في الواقع خطوط الخسائر المؤكّدة وتلك المحتملة. 

تروما
لستُ متشائمة، كما أني لست مصابة باكتئاب. لديّ معالجون حولي يتابعون معي تطوّر حالتي النفسية بشكلٍ عام. كما أنني لا أمرّ بأزمة منتصف العمر التي يتحدّثون عنها. حدث فقط أن الزمن كان بطيئاً عندي، لكنّه فجأةً تأطّر بالزمن الحقيقي. اكتشفت قبل فترةٍ قصيرةٍ فقط أني قضيت عشرين عاماً من حياتي أحاول استرجاع ذكريات سنواتي العشر الأولى، ولم أفلح حتى الآن. هناك، في ذاك البُعد تحديداً، حدث شيءٌ ما جعل الزمن يتوقّف. ربما كانت قذيفة من القذائف التي انهمرت يوماً من سماء لبنان. ربما كانت ولادتي نفسها في عزّ الاجتياح الإسرائيلي للبنان. أو ربما حدثٌ ما يصعب الحديث عنه أو حتى تذكّره. ثم في بُعدٍ آخر، بُعد الزمن الحاضر، حدث شيءٌ ما، من جديد، جعل الزمن يجري.

خرجتُ مؤخّراً من حالة التنويم التي كنت فيها، ولا أعلم إن كان هذا للأفضل أم للأسوأ.
في النهاية، يبقى الفضل، كلّ الفضل في هذا النصّ، لصديقي الستينيّ نفسه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها