في أحدى أسواق دمشق القديمة، تنتشر أكشاك تعرض علب السردين والمرتديلا بأسعار مغرية، لكنها تخفي وراءها منتجات منتهية الصلاحية أو مجهولة المصدر.
منذ سنوات، تغرق الأسواق السورية في فوضى تجارية انعكست في انتشار البضائع الفاسدة والمجهولة المنشأ. وسط الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط وغياب الرقابة الكافية، تسلّلت إلى السوق منتجات مغشوشة أو منتهية الصلاحية، ما شكل تهديدًا مباشرًا للمستهلك وزعزع الثقة بالسلع المحلية، فيما تشير تقارير دولية إلى أن ضعف الرقابة على المنافذ الحدودية يسهّل دخول المواد الغذائية المقلّدة أو المخزّنة بطريقة غير صحيحة، خصوصًا في شمال غرب البلاد.
كيف غزت البضائع الفاسدة الأسواق؟
في حديثه مع "المدن"، يرى الخبير الاقتصادي وأمين سر جمعية حماية المستهلك السورية عبد الرزاق حبزة، أن جذور هذه الظاهرة تعود إلى مرحلة الانتقال نحو اقتصاد السوق، "حين ترافق الانفتاح التجاري مع ضعف الرقابة وتنامي نشاط التهريب". في تلك الفترة، دخلت السلع عبر منافذ غير منظّمة أو من منشآت تعمل في الظلّ، معتمدة على تقليد الماركات المعروفة أو تعديل تواريخ الصلاحية.
وقد ظهرت منتجات غذائية كالسردين المعلب كُتب عليها أنّها من منشأ "مغربي" ولكنّها في الواقع صينية، ومرتديلا وحلاوة طحينية غير صالحة للاستهلاك، ما يعكس ضعف التنظيم والفوضى الاقتصادية.
في السياق، تشير دراسات محلية وإقليمية إلى انتشار البضائع الأجنبية غير القانونية، مثل المنتجات التركية والإيرانية، التي تُطرح في أسواق دمشق بأسعار أقل من المنتجات المحلية، وتضغط على المنتج الوطني.
الحدود المفتوحة
كذلك،. يبيّن حبزة أن تعدّد المنافذ الحدودية وضعف ضبطها كانا من أبرز أسباب تفشّي هذه الظاهرة، إلى جانب نقص الكوادر الرقابية داخل الأسواق، التي لم تستطع تغطية النشاط التجاري بشكل كامل. وبحسب حبزة، فإن مرحلة الانفتاح لم تكن مصحوبة بإطار تشريعي ورقابي واضح، ما جعل السوق بيئة خصبة للغش التجاري وتبديل بلد المنشأ والتلاعب بالعلامات التجارية، لتصبح بعض المنتجات المحلية معرضة لفقدان مكانتها أمام البضائع المجهولة الرخيصة.
بالتوازي، فإن تقريراً صادراً عن OECD يوضح أن التجارة غير المشروعة بالسلع المقلّدة تزداد في البيئات التي تشهد ضعف الحوكمة أو انتشار الفساد، ما يهدّد النمو الاقتصادي وسلامة المستهلك.
الفقر والغش التجاري
وامتدت آثار هذه الظاهرة إلى الاقتصاد والمجتمع. فقد تضررت المؤسسات المحلية نتيجة منافسة غير عادلة مع بضائع مغشوشة، بينما انخفضت ثقة المستهلك بالمنتجات المتاحة.
ومع محدودية الدخل، أصبح المواطن مجبرًا على شراء الأرخص، حتى لو كان على حساب الجودة والسلامة، ما خلق حلقة مفرغة بين الفقر والغش التجاري، فيما صحة المواطن واقتصاده أصبحا الضحيتين الرئيسيتين.
ضبط الحدود ودعم الإنتاج المحلي
وعن الحلول، يشدد حبزة على أن معالجة المشكلة تبدأ بضبط الحدود والمنافذ بصرامة، لكونها المدخل الرئيسي لتدفّق البضائع المهرّبة، إضافة إلى دعم الإنتاج المحلي وتحسين ظروفه، ما يخفف الحاجة إلى السلع المستوردة، بينما يمنح تحسين الدخل القدرة للمستهلك على اختيار منتجات آمنة. فالاستقرار الاقتصادي لا يتحقق بالمنع وحده، بل بتوفير بديل وطني يلبي حاجات السوق بجودة وسعر مناسبين.
الرقابة والمجتمع المدني
تعمل جمعية حماية المستهلك كذراع رقابية موازية للجهات الحكومية، من خلال متابعة الأسواق، واستقبال الشكاوى وتحويلها للجهات المختصة، والتوعية عبر منصّات التواصل الاجتماعي. كما تحذّر المواطنين من العروض المخادعة والتخفيضات المبالغ فيها، التي غالبًا ما تخفي وراءها بضائع مهربة أو فاسدة. وتتدخّل الجمعية وديًا أو عبر القضاء عند الحاجة، مع استمرار التعاون مع الجهات الرسمية لضمان حماية المستهلك وضبط المخالفات.
ورغم الدور المحوري للجمعية، فهي تواجه تحديات عدة، أبرزها ضعف الدعم المؤسسي ومحاولات بعض الجهات تقييد نشاطها. ويوضح حبزة أن بقايا النظام السابق عرقلت عمل المجتمع الأهلي، بما في ذلك النزاع على مقرات الجمعية، كما حدث في البرامكة، حيث تعرضت وثائق مهمة للنهب خلال فترة التحرير، فيما تعمل الجمعية حاليًا على إيجاد مقر بديل لاستمرار نشاطها بشكل منتظم.
خط الدفاع الأول للمستهلك
وتخلص الجمعية إلى أن حماية المستهلك تبدأ بالوعي الشخصي، فالشراء من أسواق نظامية، والتأكد من مصدر وتاريخ البضاعة يشكلان خط الدفاع الأول.
كما تؤكد وجوب الابتعاد عن العروض المشبوهة المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتفعيل الرقابة التموينية والقوانين الخاصة بحماية المستهلك، بما يعيد الانضباط إلى السوق ويحافظ على سلامة المواطن والاقتصاد في آن واحد.
