تتكرّر عبارة "إعادة الإعمار" كثيراً، منذ لحظة وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، بلا ترجمة على أرض الواقع، لأسباب كثيرة أهمّها استمرار الاعتداءات الإسرائيلية التي تراكم الخسائر وترفع كلفة إعادة الإعمار، فضلاً عن ضعف الإمكانات المالية للدولة وعدم إقرار مجلس النواب مشروع قانون قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار المخصّص لتمويل إعادة إعمار البنى التحتية، الأمر الذي يراكم الضغط على الحكومة. ومع ذلك، أراد رئيس مجلس النواب نبيه بري إطلاق لقاء لإعادة الإعمار، من الجنوب. فكان مناسبةً لاستعراض ما وصلت إليه عملية إزالة الركام وما ينتظر الحكومة من خطوات عالقة، أبرزها تأمين التمويل وتضمين موازنة العام 2026 بنداً واضحاً حول تمويل إعادة الإعمار، وهو ما شدّد عليه نوّاب حزب الله.
حضور أحادي اللون
بوضوح تام، ظَهَر "اللقاء التنسيقي الأوّل نحو إعادة الإعمار"، بصورة اجتماع أحاديّ القطب، غابت عنه شخصيات سياسية رئيسية في الدولة، فاقتصر الحضور على لون سياسي واحد وجدَ نفسه معنياً في إعادة الإعمار. وباستثناء نائب قائد قوات اليونيفيل الجنرال هيرف ليكوك وممثل قائد الجيش العميد أمين القاعي، وممثّلي المؤسسات والإدارات العامة، اقتصر حضور اللقاء الذي عقد في مجمّع نبيه برّي الثقافي في المصيلح، على عدد من وزراء ونواب كتلتي التنمية والتحرير والوفاء للمقاومة، ومنهم وزراء المالية ياسين جابر، الصحة ركان ناصر الدين، والبيئة تمارا الزين، والنواب هاني قبيسي، حسن فضل الله، علي خريس، علي فياض... وغيرهم، إضافة إلى محافظيّ الجنوب والنبطية ونقيب المهندسين وعدد من رؤساء اتحادات البلديات.
ومع ذلك، أراد برّي الذي لم يحضر اللقاء أن "تتّخذ عملية إعادة الإعمار طابعاً وطنياً جامعاً"، وفق كلمة ألقاها باسمه، النائب محمد خواجة. وانطلاقاً من الطابع الوطني للعملية، رأى برّي أنّه يجب أنّ "تتضافر جهود كل اللبنانيين، وفي مقدّمهم الدولة اللبنانية بإداراتها ومؤسساتها، وهي المسؤول الأوّل عن ورشة النهوض والإعمار، ليس لإعادة البناء فقط، بل ولترميم الثقة بينها وبين مواطنيها، لا سيما أبناء الجنوب الذين تحمّلوا عبر عقود مديدة من الصراع، ضريبة الدفاع عن لبنان بل وعن كل العرب". على أنّ هذه المسؤولية لا تقف هنا، إذ "تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى دعم ومؤازرة الدول الشقيقة والصديقة والهيئات الدولية". وعليه، اعتبر برّي أنّ هذا اللقاء "فرصة للتشاور وتبادل الأفكار والاستماع إلى أهل الخبرة والاختصاص من الجهات المعنية".
نقص التمويل
بَيَّنَ أهل الاختصاص، خلال جلسة مغلقة، ما في جعبتهم من أعمال قامت بها المؤسسات والإدارات والوزارات العامة. فعلى سبيل المثال، أكّد رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر أنّ المجلس "بدأ منذ وقف إطلاق النار بفتح الطرقات وإزالة الركام، وأنهى المسح الكامل للأضرار، والتي تم تقويمها بنحو 6 مليار دولار، وتشمل أضرار البنى التحتية والمنازل".
أمّا في ما يتعلّق بالقطاع الصحي، فإنّ وزارة الصحة "بدأت مشروع إعادة إعمار المستشفيات الحكومية، لكن ذلك لا يكفي، فهناك المستشفيات الخاصة ومراكز الرعاية الأولية"، وفق ما قاله وزير الصحة ركان ناصر الدين الذي أوضح في حديث لـ"المدن"، أنّ "ميزانية الوزارة متواضعة والحاجات كبيرة جداً، والأولوية للبيوت والوحدات السكنية المهدمة والمتضررة، ولذلك، فإنّ إعادة الإعمار هو مشروع يحتاج إلى تمويل كبير".
بدوره، ذهبَ وزير المالية ياسين جابر بشكل مباشر إلى ملفّ المنازل المهدّمة، معلناً أنّ "الدولة غير قادرة على ترميم المنازل، فالأمر يحتاج إلى مؤتمر دولي لتقديم الدعم". وأكّد أنّ هذا الملف يحتاج "إلى نحو 4 إلى 5 مليارات دولار". ولتنفيذ خطوة إلى الأمام في هذا الملف، راهنَ جابر على إقرار قرض البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار "الذي كان من المفترض به أن يُقَر في الجلسة الأخيرة لمجلس النواب، لكن النصاب لم يكتمل، لكن البند موجود على جدول الأعمال". واعتبر جابر في تصريح صحافي أنّه "بمجرّد إقرار هذا القرض، نستطيع الإتيان بـ250 مليون دولار أخرى". وأكّد أنه إلى جانب هذا التمويل "سيكون هناك أموالاً مخصصة لإعادة الإعمار في موازنة العام 2026".
حزب الله ينتظر الحكومة
بات المشهد أكثر مأسوية بعد سنتين من بدء رحلة خراب الجنوب وتهجير الجنوبيين. فالدمار الهائل والموت المستمر وتهجير العائدين قد يتكرّر في أيّ لحظة، وهذا ما يستدعي تحركاً عاجلاً على المستوى الوطني والدولي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية. لكن ذلك لا ينفصل عن السياسة، وهو رابط يدفع المدنيون ثمنه. والسجال السياسي حول الحرب ونتائجها لا يحصل خارج الحدود بين الدول الكبرى فقط، وإنما للداخل اللبناني حصّة منه، فالانقسام حول المسؤوليات لا يزال حاضراً، بدءاً من مسؤولية استجرار الحرب، وصولاً إلى مسؤولية إعادة الإعمار. وفيما رأت بعض القوى السياسية أنّ حزب الله استدعى الحرب، وهو بالتالي مسؤول عن الدمار وإعادة الإعمار، تمسّك الحزب بالصيغة الوطنية الجامعة التي أرادها برّي لإعادة الإعمار.
وعليه، رأى النائب علي فيّاض أنّه "يجب على الدولة أن تطلق عملية اعادة الإعمار، ويمكن ترجمة ذلك بموازنة العام 2026 التي يجب أن تتضمن بنداً واضحاً يتّصل بتخصيص مبلغ لعملية إعادة الاعمار وإن كان المبلغ متواضعاً". وأعتبر فيّاض في حديث لـ"المدن"، أنّ الحزب قام بدوره في هذا الملف، وجاء دور الدولة. وبنظره "قمنا بدور كبير في ما يتعلّق بالإيواء والترميم في الجنوب والضاحية الجنوبية، ولا يزال هناك عدد كبير من الوحدات السكنية تحتاج إلى ترميم، خصوصاً في المناطق الحدودية الأمامية، ولا يزال هذا الملف عالقاً". أمّا الشيكات الصادرة عن الحزب، والتي علّقت مؤسسة القرض الحسن صرفها، فأشار فيّاض إلى "أنّنا ملتزمون بالشيكات الصادرة، وهي مسألة وقت. لكن في ما يتعلّق بإعادة إعمار ما تهدّم، فهذه مسؤولية الدولة".
من على طاولة النقاش في الجلسة المغلقة، استكملَ النائب حسن فضل الله تحميل الحكومة مسؤولية التباطؤ في إعادة الإعمار، إذ قال أنّ "الحكومة أمامها العديد من المسؤليات، أهمّها الإطار القانوني لإعادة الإعمار، وتأمين التمويل اللازم لإعمار البنى التحتية والمنازل المدمرة". وفي الإطار القانوني، أشار فضل الله إلى أنّه "صدر عن مجلس النواب قانون بالإعفاءات، لكن إلى الآن لم تقر المراسيم التطبيقية، والمواطن يعاني". وإذ ثمَّن فضل الله وجود مشروع قانون لقرض البنك الدولي لتمويل إعمار البنية التحتية، فإنّ "القضية المركزية هي المنازل المهدمة في القرى الأمامية وفي أي منطقة، وحتى الآن لا يوجد أي إجراء من جانب الحكومة. ونحن سعينا في الحكومة إلى أن يكون لدينا تمويل في الموازنة. ومطلوب من الحكومة أن تضع اعتماداً واضحاً للبيوت المهدّمة كي يشعر المواطن بأن الحكومة معنية بإعادة الإعمار، فلا يمكن للحكومة أن تنتظر المساعدات من الخارج ولا تضع مبلغاً في الموازنة". وفي حال عدم تضمينها "بنداً واضحاً لإعادة الإعمار"، فإنّ الموازنة "لن تمرّ من مجلس النواب".
بين التصعيد وعرض الإمكانات، انطلاقاً من الواقع المالي والسياسي، خلص المجتمعون إلى توصيات، أهمّها "دعوة مجلس الوزراء إلى عقد جلسة خاصة حول الجنوب بمشاركة أجهزة الدولة كافة، لوضع آلية واضحة لبرنامج إعادة الإعمار. والكفّ عن رهن ملف إعادة الإعمار بالمواقف السياسية والدولية والشروع في الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها داخلياً. والتأكيد على شمولية ملف إعادة الإعمار من البقاع إلى الضاحية الجنوبية إلى الجنوب ومناطق جزين والريحان وكفرشوبا والعرقوب وقرى الحافة الأمامية. وتضمين الموازنة السنوية للحكومة بنداً خاصاً بملف إعادة الإعمار. والسعي إلى فرض حد أدنى من الأمان عبر الجهات الدولية للفرق العاملة في رفع الركام من قبل مجلس الجنوب بعد توقفها في عدد من القرى بسبب الإعتداءات الإسرائيلية".
إلاّ أنّ هذه التوصيات ستبقى أسيرة الانقسام الداخلي حول الحرب وأسبابها وتحديد المسؤوليات المرتبطة بها، فضلاً عن تأثير التوازنات الإقليمية والدولية على لبنان وملفّاته، ممّا يخلق ضغطاً مستمراً على الجنوبيين وكل متضرّري الحرب.
