تتضح تدريجياً مفاعيل الزيارة التي أجراها الوفد السوري مؤخراً إلى واشنطن، إذ فتحت الباب أمام مقاربة اقتصادية جديدة تسعى إلى إعادة إدماج سوريا في المنظومة المالية العالمية بعد أكثر من عقد من العزلة.
فالنقاشات التي دارت بين الجانبين لم تقتصر على الملفات التقنية، بل لامست جوهر التحوّل من اقتصاد محاصر إلى اقتصاد إصلاحي يسعى لبناء الثقة واستعادة المصداقية.
هذا التحوّل يعكس – بحسب خبراء – انتقال الملف السوري في واشنطن من زاوية العقوبات إلى مسار الإصلاح والامتثال، مع التركيز على إعادة تفعيل القنوات المصرفية المشروعة، وتسهيل انخراط القطاع الخاص السوري في بيئة استثمارية أكثر انفتاحاً، بما يتيح تدفقات نقدية واستثمارات جديدة قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد واستقرار سعر الصرف.
وفيما لا يُتوقع أن تكون النتائج آنية، يرى المراقبون أن مجرد استئناف الحوار المالي مع المؤسسات الأميركية والدولية يمهّد لمسار تدريجي نحو التعافي الاقتصادي، ويؤشر إلى بداية تراجع الدور العقابي للعقوبات لحساب مقاربة قائمة على الشفافية والإصلاح المؤسسي.
تحوّل من العقوبات إلى الامتثال
وبالعودة إلى زيارة الوفد السوري، الذي ضم وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار، ووزير المالية محمد يسر برنية، وحاكم المصرف المركزي عبد القادر الحصرية، إلى واشنطن مؤخراً فقد قدّم خلال اللقاءات رؤية اقتصادية جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار النقدي وإعادة بناء المصداقية المؤسسية، وتسهيل انخراط القطاع الخاص السوري في بيئة استثمارية عالمية أكثر انفتاحًا. كما تم بحث إعادة فتح القنوات المصرفية المشروعة، وتفعيل حسابات المراسلة الدولية، وتشجيع الاستثمارات الأميركية في القطاعات الإنتاجية السورية، وإعادة تقييم التعريفات الجمركية الأميركية على الصادرات السورية، إلى جانب التعاون في المجال التكنولوجي والرقمي.
ويشير العضو الاستشاري في التحالف السوري الأميركي للسلام والازدهار (SAAPP) خالد الصعيدي، في حديث لـ"المدن" إلى أن "زيارة الوفد السوري إلى واشنطن تمثل تحولًا نوعيًا من الحضور البروتوكولي إلى الحوار المؤسسي الفعلي، إذ انتقل الملف السوري في واشنطن من كونه ملف عقوبات إلى كونه ملف إصلاح وامتثال."
وأضاف الصعيدي: "نجاح المباحثات لا يُقاس بالنتائج الفورية، بل بعودة لغة التواصل التقني بين المؤسسات المالية السورية والأميركية، وفتح باب النقاش حول إدماج سوريا في النظام المالي العالمي بعد أكثر من عقد من العزلة الاقتصادية. الأثر الإيجابي سيظهر تدريجيًا عبر استقرار الليرة، وزيادة القدرة على تمويل الاستيراد، وتحفيز الاستثمار الخاص بتكلفة أقل بنسبة 30 في المئة مقارنة باقتصاد الظل."
الجدوى الاقتصادية لإعادة الإدماج المالي
ويُقدّر الخبير الاقتصادي أسامة العبد الله أن إعادة تفعيل حسابات المراسلة واستعادة الوصول إلى نظام SWIFT يمكن أن يوفر تدفقات نقدية فورية تصل إلى 2–3 مليارات دولار سنويًا من التحويلات المشروعة والصادرات، مقارنة بـ500 مليون دولار حاليًا عبر قنوات غير رسمية.
وأضاف في حديث لـ"المدن" كما تتوقع منحًا محتملة من البنك الدولي بقيمة مليار دولار لدعم التنمية، مع إمكانية جذب استثمارات خاصة في الطاقة المتجددة والزراعة الذكية بقيمة 500 مليون دولار خلال العامين المقبلين، بشرط رفع العوائق القانونية".
ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي السوري حاليًا 20 في المئة فقط من مستواه قبل 2011 (حوالي 12 مليار دولار مقابل 60 مليارًا)، مع تضخم يتجاوز 100 في المئة وبطالة شبابية تفوق 50 في المئة. إعادة الإدماج المالي قد تحقق نموًا بنسبة 1–3 في المئة في 2026، مع استقرار سعر صرف الليرة عند نحو 11 ألف ليرة سورية للدولار، وخفض تكاليف الاستيراد بنسبة 15–20 في المئة عبر القنوات الرسمية.
تأثير قانون قيصر على الاقتصاد السوري
وكان قانون قيصر (Caesar Act) قد فرض في حزيران 2020 عقوبات ثانوية على أي كيان يتعامل مع الحكومة السورية السابقة بقيادة الرئيس المخلوع بشار الأسد أو مصرفها المركزي، مما أدى إلى تداعيات اقتصادية واسعة تمثلت في:
انهيار القنوات المصرفية: توقف 90 في المئة من حسابات المراسلة الدولية، وارتفاع تكاليف التحويلات إلى 20–30 في المئة مقابل 1–2 في المئة عالميًا.
تقلص الصادرات: انخفاض بنسبة 85 في المئة (من 12 مليار دولار في 2010 إلى 1.8 مليار في 2024)، مع فقدان أسواق أوروبية وخليجية.
ارتفاع التضخم: مساهمة بنسبة 40 في المئة في التضخم المزمن عبر نقص السيولة الأجنبية.
نمو اقتصاد الظل: وصول السوق السوداء إلى 70 في المئة من المعاملات المالية، بخسائر ضريبية تقدّر بـ1.5 مليار دولار سنويًا.
بدوره، يوضح الخبير الاقتصادي علي شغلة في حديث لـ"المدن" أن "قانون قيصر حوّل العقوبات من أداة ضغط سياسي إلى عائق هيكلي أمام الإصلاح الاقتصادي. ورفع العقوبات فورًا ضروري لخفض تكاليف المعاملات بنسبة 25 في المئة، واستعادة 1 إلى 2 مليار دولار من التحويلات السنوية، وتمكين القطاع الخاص من الوصول إلى تمويل دولي بفائدة 5–7 في المئة بدلًا من 20 في المئة في السوق المحلية. بدون ذلك، تبقى أي إصلاحات داخلية محدودة التأثير."
دور الشفافية وبناء الثقة
ويؤكد الصعيدي أن "إعادة بناء الاقتصاد السوري تتطلب شفافية مصرفية ومساءلة مؤسسية حقيقية. فالتحالف السوري الأميركي يعمل كجسر عملي بين المؤسسات السورية والدولية، ينقل المعرفة التقنية ويشرح معايير الامتثال، بما يضمن أن يكون رفع العقوبات مستدامًا ومثمرًا للطرفين."
ويضيف: "المنظمات غير الحكومية السورية والأميركية ستؤدي دورًا جوهريًا في المرحلة المقبلة من خلال مراقبة تنفيذ البرامج، وبناء القدرات المحلية، وتعزيز الثقة المؤسسية عبر مبادرات مشتركة مع البنك الدولي ومؤسسات التنمية."
من جانبه، يرى الخبير شغلة أن "الإصلاحات الداخلية في مكافحة غسيل الأموال، وبناء احتياطي نقدي مستهدف بقيمة 3 مليارات دولار خلال ثلاث سنوات، تمثل الضمان لتحويل الملف المالي من عقابي إلى إصلاحي، تمهيدًا لنمو مستدام بنسبة 4–5 في المئة بحلول عام 2028، شريطة الالتزام السريع بالمعايير الدولية ومواصلة الحوار مع المؤسسات الأميركية والدولية."
