تشهد الضاحية الجنوبية لبيروت منذ بداية التوترات الأمنية حتى "وقف إطلاق النار" مفارقة لافتة في سوق العقارات: انخفاض حاد في أسعار البيع، يقابله ارتفاع غير مسبوق في أسعار الإيجارات. مشهد يعكس حالة من القلق الأمني والإرباك الاقتصادي، ويعبّر عن تبدّل أولويات السكان في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في لبنان.
منذ بداية الصيف، سجّلت مكاتب العقارات في الضاحية الجنوبية تراجعًا ملحوظا في حركة البيع، مع انخفاض الأسعار بنسبة تتراوح بين 20 و40 في المئة، تبعًا للمنطقة وقربها من النقاط الحساسة، بحسب حمزة رضا، وهو صاحب مكتب عقاري في بيروت.
يقول رضا في حديثه لـ"المدن"، العرض ازداد بشكل غير طبيعي، والمشترون قلّة. كثيرون يريدون البيع خوفاً من أي تصعيد أمني، حتى لو كان السعر أقل من القيمة الفعلية.
في أحياء مثل حي الأميركان وسان تيريز، هبط سعر المتر المربع من نحو 1300 دولار إلى ما بين 600 و700 دولار، بينما تُعرض شقق جاهزة للبيع بأسعار تقل عن نصف قيمتها قبل عامين.
ويعزو الوسط العقاري هذا التراجع إلى الخوف من تدهور الوضع الأمني والاقتصادي، إضافة إلى ركود الطلب في السوق نتيجة انكماش السيولة.
ارتفاع غير مسبوق في الإيجارات
في المقابل، يشهد سوق الإيجار حركة نشطة وارتفاعاً متواصلاً في الأسعار. فمع ازدياد النزوح الداخلي من الجنوب والبقاع باتجاه بيروت وضاحيتها، ارتفع الطلب على الشقق الصغيرة والمتوسطة، ما جعل بعض المالكين يرفعون الأسعار بنسب تجاوزت 30 في المئة خلال أشهر قليلة.
يوضح رضا: "العائلات تبحث عن مأوى آمن ومؤقت، وخصوصاً من فقدوا منازلهم في الجنوب. أغلبهم يدفع بالدولار النقدي، ما يشجّع المالكين على رفع السعر".
ويضيف أن إيجار شقة صغيرة كانت تُقدّر بـ300 دولار بات اليوم لا يقل عن 450 دولاراً في بعض الأحياء، فيما وصلت شقق الطابق الأرضي إلى أرقام غير مسبوقة.
رواج بيع سندات الشقق المدمّرة
وسط هذا الاضطراب، برزت ظاهرة بيع وشراء سندات الشقق التي تعرّضت للقصف خلال الحرب.
يوضح رضا، أن "الكثير من الأشخاص الميسورين مادياً يتجهون نحو هذا النوع من الاستثمار. فيه مجازفة، لكنه قد يكون ورقة رابحة على المدى الطويل".
ويضيف أن "سندات هذه الشقق تُباع اليوم بما يقارب 30 في المئة من قيمتها الفعلية أي بأقل من قيمتها الفعلية بنحو 70 في المئة، في رهان على إمكان إعادة الإعمار لاحقاً أو حصول تعويضات من الدولة أو من جهات مانحة".
هذا النوع من التداول يعكس تحوّل العقار من مساحة سكن إلى أداة مضاربة مالية، يُراهن فيها المستثمرون على المستقبل المجهول للمنطقة.
اختلال بنيوي
اليوم يرتبط المشهد العقاري في الضاحية بجملةٍ من العوامل المركّبة التي أعادت تشكيل ملامحه خلال السنوات الأخيرة. فالتوتّر الأمني المستمر جعل من فكرة "الملكية" عبئاً طويل الأمد بدل أن تكون ضمانة استقرار، في حين أدّت الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى تراجع القدرة الشرائية ودفع العديد نحو حلولٍ مؤقتة كالإيجار قصير الأمد.
كما ساهم النزوح الداخلي المتزايد في زيادة الضغط على سوق الإيجارات ورفع الطلب بشكل غير متوازن. ويرى خبراء أن السوق يعيش اليوم حالة "اختلال بنيوي"، إذ لم تعد العقارات تُعتبر استثماراً آمناً كما في السابق، بل باتت تُرى كعبءٍ محتمل في حال وقوع أي تصعيد أمني أو اقتصادي.
وأشار رئيس نقابة الوسـطاء والاستشاريين العقاريين في لبنان وليد موسى، في حديثه لـ"المدن"، إلى وجود عرض هائل للعقارات للبيع في منطقة الضاحية، متنوع من حيث أشكالها وألوانها، بما في ذلك أراضٍ وشقق سكنية وشقق مهدمة بأسعار منخفضة جداً. وأضاف موسى أن هناك حالة من الخوف لدى البعض من السكن في الضاحية، ما دفع بعض السكان إلى مغادرتها وعدم الرغبة في العودة.
وأوضح موسى أن هناك من يستغل الفرص ويشتري عقارات مهدمة بأسعار متدنية جداً، على أمل تحقيق أرباح مستقبلية من إعادة ترميمها وبيعها لاحقاً.
وكشف موسى عن وجود العديد من الشقق المتاحة ضمن برامج التمويل العقاري، بعد انخفاض الأسعار لتصبح بين 100 و120 ألف دولار، ما يتيح للمشتري دفع نحو 20 إلى 25 ألف دولار فقط والحصول على التمويل المتبقي من المصرف، مما يجعل عملية الشراء ممكنة وسهلة.
وختم بالإشارة إلى أن هناك الكثير من العقارات المعروضة للبيع، لكن الطلب لا يزال محدوداً، مشيراً إلى أن بعض المستثمرين يقومون بالاستفادة من هذا الوضع لشراء عقارات بأسعار مغرية.
إلى أين يتجه السوق؟
في ظل الغموض السياسي والأمني، يتوقع الوسط العقاري استمرار تراجع أسعار البيع في الأشهر المقبلة، مع بقاء الإيجارات مرتفعة بسبب الطلب المتزايد. ويرى بعض المستثمرين أن هذا الظرف قد يشكّل فرصة للشراء بأسعار منخفضة، لكن معظم السكان يفضّلون الانتظار أو الاكتفاء بالإيجار مؤقتًا.
هكذا تعكس الضاحية الجنوبية مفارقة لبنانية بامتياز: سوق بيع راكدة، وسوق إيجار مشتعلة، واستثمار بالمخاطرة في السندات، تحركها المخاوف أكثر من الأرباح، ويغلب عليها منطق البقاء لا الاستثمار.
ما تشهده الضاحية الجنوبية اليوم هو انعكاس مباشر لـ"اقتصاد الأزمات"، حيث تفقد الأصول قيمتها الحقيقية لصالح السيولة والحلول المؤقتة. فالطلب على الإيجار مؤشر على فقدان الثقة بالاستقرار، بينما تراجع المبيع يعكس غياب الرؤية المستقبلية. ومع تفاقم المخاطر الأمنية، يتحوّل العقار من ملاذ آمن إلى أصل عالي المخاطر.
أما رواج بيع السندات فهو شكل من أشكال الاستثمار الرمزي في الأمل، إذ يراهن المشترون على تعويضات أو إعادة إعمار مستقبلية، رغم انعدام الضمانات.
ختاماً يمكن القول إن السوق العقارية في الضاحية لن تستعيد توازنها قبل عودة الاستقرار السياسي والأمني، ووضوح سياسات الدولة تجاه الإعمار والتعويضات، فالمرحلة الحالية هي "زمن النجاة لا الازدهار".
