من باندونغ إلى كونمينغ: الجنوب في زمن الحوكمة الدولية

رأيوارف قميحةالاثنين 2025/10/27
باندونغ اندونيسيا (غيتي)
الجنوب العالمي عصر جديد من الحوكمة الدولية (غيتي)
حجم الخط
مشاركة عبر

في عام 1955، اجتمع قادة آسيا وأفريقيا في مدينة باندونغ الإندونيسية، حاملين معهم جراح الاستعمار وأحلام الاستقلال. هناك وُلدت فكرة أن للعالم صوتًا آخر غير أصوات القوى المهيمنة، وأن شعوب الجنوب قادرة على أن تكون شريكًا فاعلًا في صياغة المستقبل. كانت باندونغ لحظة ميلاد أولى لفكرة الجنوب العالمي، بوصفه كتلة تاريخية وأخلاقية تسعى للعدالة والكرامة والتعاون. لقد شكّل هذا اللقاء بداية مشروع مستمر لرؤية الجنوب كعنصر أساسي في التوازن الدولي، وكمصدر للخبرة الحضارية والتنموية التي يمكن أن تسهم في بناء نظام عالمي أكثر عدلًا واستدامة.

بعد نحو سبعين عامًا، جاء منتدى الإعلام ومراكز الأبحاث للجنوب العالمي 2025 في مدينة كونمينغ الصينية ليعيد إحياء روح باندونغ. المنتدى، الذي اختتم بمشاركة نحو 500 ضيف من أكثر من 260 مؤسسة إعلامية وبحثية ومنظمة حكومية ودولية من 110 دولة ومنطقة، شكّل منصة واسعة للحوار، تحت شعار: "تمكين الجنوب العالمي، ومواجهة التغيرات العالمية".

تنظيم المنتدى من قبل وكالة أنباء شينخوا بالتعاون مع اللجنة الحزبية لمقاطعة يونّان للحزب الشيوعي الصيني وحكومة المقاطعة لم تكن مجرد حدث تقني، بل تأكيدًا على أن الإعلام والفكر أصبحا ساحة مركزية لإعادة التوازن للعلاقات الدولية وإبراز صوت الجنوب.

كونمينغ ليست مدينة عادية؛ فهي "مدينة الربيع الدائم" في مقاطعة يونّان، عقدة وصل تاريخية بين الصين وجنوب شرق آسيا وجنوب آسيا. تاريخها كجزء من طريق الحرير جعل منها رمزًا للانفتاح والتعددية، واليوم، وهي تستضيف منتدى الجنوب العالمي، يبدو وكأنها تكتب فصلًا جديدًا من قصة التلاقي الإنساني.

 

أصوات متعددة… ورسالة واحدة

في أروقة المنتدى، تنوعت النقاشات بين الإعلام، الحوكمة العالمية، الذكاء الاصطناعي، والتبادل الحضاري، لكن الرسالة الأساسية كانت واضحة: الجنوب العالمي يريد أن يسمع صوته بنفسه، بعيدًا عن الوسائط الغربية التي لطالما شوهت صورته.

في كلمتي أمام المنتدى، أكدت أن دول الجنوب، رغم كثافتها السكانية وعمقها التاريخي، لا تزال تُصوَّر في الإعلام العالمي كمناطق نزاع أو فقر أو تطرف، بينما هي حاضنة لخبرات حضارية وتنموية وروحية تستحق أن تُروى من الداخل. شدّدت على أن الحوار الحضاري لم يعد ترفًا فكريًا، بل أصبح ضرورة وجودية في عالم يزداد انقسامًا.

أوضحتُ أن الثقافة ليست ترفًا، والإعلام ليس مجرد مرآة عاكسة، بل هما أداة سيادة ومعركة سرد. لقد آن الأوان أن يتحدث أبناء الجنوب العالمي عن أنفسهم، وأن يرووا قصصهم بأصواتهم، بروح حضارية تعكس تنوعهم وثراءهم الإنساني. هذه الفكرة لم تكن مجرد ملاحظة شخصية، بل صدى عميق للنقاشات التي شهدها المنتدى، حيث اتفق المشاركون على أن الإعلام ومراكز الأبحاث في الجنوب يجب أن تتحول إلى جسور للتواصل وتوليد الأفكار وصياغة التوافقات، بحيث تدافع عن العدالة وتقدم حلولًا عملية لمشكلات التنمية.

 

الحوكمة العالمية: لحظة مراجعة

يصادف عام 2025 الذكرى الـ80 لتأسيس الأمم المتحدة، المؤسسة التي أسسها المجتمع الدولي بعد مراجعة عميقة لدروس الحربين العالميتين. على مدى العقود الثمانية الماضية، قدمت المنظومة الدولية، التي تكون الأمم المتحدة مركزًا لها، مساهمات تاريخية لصيانة السلام والتنمية.

لكن الأوضاع الدولية الحالية تشهد تغيرات واضطرابات متشابكة، حيث تتعرض الأمم المتحدة وتعددية الأطراف لصدمات، مع استمرار عجز الحوكمة العالمية. هناك قصور في ثلاثة مجالات:

  1. النقص في تمثيل الجنوب العالميمع تصاعد قوة الأسواق الناشئة، هناك حاجة لتعزيز مشاركة الدول النامية في صنع القرار الدولي.

  2. تآكل السلطة: لم يتم الالتزام الكامل بمقاصد ومبادئ الأمم المتحدة، حيث تتعرض قرارات مجلس الأمن للمعارضة، وتُمارس سياسات أحادية الجانب تقوض القانون الدولي.

  3. الحاجة إلى زيادة الفعاليةتأخر تطبيق أجندة الأمم المتحدة 2030، وبرزت فجوات الحوكمة في مجالات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني والخارجي.

في هذا السياق، جاءت مبادرة الحوكمة العالمية التي طرحتها الصين، لتعيد طرح السؤال العصري: "ما منظومة الحوكمة العالمية التي سنبنيها؟ وكيفية إصلاحها وتحسينها؟"، مع الالتزام بالمساواة، القانون الدولي، تعددية الأطراف، وضع الشعوب في المقام الأول، وتحقيق نتائج ملموسة. هذه المبادرة تمثل امتدادًا عمليًا لرؤية الصين في دعم مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وتعكس التزامًا مستدامًا بتقوية الفاعلية والعدالة في النظام الدولي.

أكد المشاركون، وأكدتُ بدوري، أن الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة تاريخية. الأزمات الأخيرة،  من جائحة كورونا إلى أزمة الطاقة والغذاء  أثبتت أن الانفراد بالقرار يعمّق المشكلات بدل أن يحلها. العالم المتعدد الأقطاب يعني توزيعًا أكثر عدلًا للمسؤوليات والفرص، وإشراك قوى الجنوب الصاعدة في إدارة شؤون الكوكب، ليس مشروع صراع مع الشمال، بل مشروع توازن وتكامل.

 

إعلان "توافق يونّان": خارطة طريق الجنوب العالمي

إحدى أبرز مخرجات المنتدى كان إعلان "توافق يونّان"، الذي مثل لحظة محورية في تاريخ الجنوب العالمي المعاصر. هذا الإعلان لم يكن مجرد بيان رمزي، بل وثيقة استراتيجية ترسم التوجهات المستقبلية لدور الإعلام ومراكز الأبحاث، وللجنوب العالمي ككل في الحوكمة الدولية والتعاون الإقليمي والعالمي.

الأهداف الجوهرية لإعلان "توافق يونّان":

  • تعزيز الإعلام ومراكز الأبحاث كأدوات قوة بنّاءة: دعم الصحافة المستقلة، تطوير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز التعاون البحثي بين مراكز الدراسات في الجنوب لتبادل الخبرات ومواجهة التحديات المشتركة.

  • التمسك بالتعددية الفاعلة وتحسين منظومة الحوكمة العالميةإصلاح النظام الدولي لتحقيق تمثيل عادل للدول النامية، مع تطبيق مفاهيم التعاون المشترك، التشاور، وتقاسم المنافع.

  • دعم التنمية المستدامة والشاملة :مكافحة الفقر، تحديث الزراعة، تعزيز الصناعات المحلية، التنمية الخضراء، الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا، وربط المشاريع المشتركة بين دول الجنوب بالابتكار الاقتصادي والثقافي.

  • ربط الذكاء الاصطناعي بالعدالة والتنمية :الاستثمار في التكنولوجيا لخدمة شعوب الجنوب، مع وضع أطر أخلاقية لتجنب تعميق الفجوة الرقمية، وتعزيز الابتكار بما يخدم التنمية المستدامة.

  • حماية التنوع الثقافي وتعزيز التبادل الحضاريدعم الفنون، التراث، التعليم، وتشجيع الحوار الحضاري بين الشعوب لتعميق التفاهم المتبادل.

  • تعزيز السلام والأمن المشترك :اعتبار السلام والاستقرار الأساس لتنمية مستدامة وازدهار شعوب الجنوب، مع تنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة النزاعات.

  • توجيه النظام الدولي نحو العدالة والمساواةضمان حقوق الدول النامية في المشاركة بالقرار الدولي وتعزيز استقلالها في صياغة سياساتها الداخلية والخارجية دون تدخل خارجي.

الأبعاد العملية لإعلان "توافق يونّان":

  • تعزيز التعاون البحثي والإعلامي وتبادل التحليلات والدراسات.

  • إطلاق مشاريع تنموية مشتركة، بما في ذلك الطاقة النظيفة، النقل، والتعليم المهني.

  • تفعيل مبادرات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الخدمات العامة وتحسين التواصل بين الشعوب.

  • تنظيم برامج تبادل ثقافي وفني، ودعم التراث المحلي لتعزيز الهوية الحضارية.
    الخيط الممتد من باندونغ إلى كونمينغ هو ذاته: رفض التهميش والسعي إلى العدالة. في باندونغ، كان التحدي مقاومة الاستعمار العسكري والسياسي. في كونمينغ، التحدي هو كسر الاستعمار السردي والفكري، والتحرر من التبعية الاقتصادية والإعلامية. اليوم، الجنوب العالمي لم يعد إطارًا نظريًا، بل حقيقة واقعة تتحرك في السياسة والاقتصاد والثقافة.

غادرت كونمينغ وأنا مقتنع بأن هذا المنتدى لم يكن مجرد لقاء فكري، بل لحظة تأسيسية لمسار طويل. الجنوب العالمي يخطو بثبات نحو لعب دور محوري في الحوكمة العالمية، وأن التعددية القطبية والمصير المشترك للبشرية لم يعودا شعارات، بل مشاريع قيد التحقيق. إنها لحظة جنوبية بامتياز: لحظة تستدعي منا رفع الصوت، كتابة سرديتنا، وتعزيز عالم أكثر عدلًا وتوازنًا وإنسانية.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث