على الرغم من ارتفاع الأسعار وتقلّب القدرة الشرائية، تشهد أسواق تجهيز العرائس في دمشق، من الحميدية إلى خان القيشاني وما حولهما، حركة بيع وإقبال متزايد خلال عام 2025 مقارنة بالسنوات الماضية. فمحال الفساتين و"الأكسسوار" والأقمشة تعرض اليوم خيارات متنوعة تراعي مختلف المستويات المادية، ما يجعل الزفاف في العاصمة لا يزال ممكنًا رغم الغلاء.
وفي جولةٍ ميدانية لـ"المدن"، رُصدت محال متخصّصة ببيع الفساتين، وأخرى بالتأجير أو التفصيل حسب الطلب، لتناسب فئات العرائس من أصحاب الدخل المحدود إلى الأكثر رفاهية.
ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر أمام الكثير من العائلات هو اختصار تكاليف التجهيز والاكتفاء بالضروريات، في ظل واقع معيشي ضاغط.
ورغم ذلك، يلاحظ أصحاب المحال انتعاشًا نسبيًا في موسم الأعراس لعام 2025، بعد سنوات من الركود، مع انتشار ظاهرة الأعراس البسيطة التي تعتمد على التنظيم الذاتي وتخفيض التكاليف دون المساس بفرحة العروس.
وفي سوريا أيضاً، حيث سجّلت أسعار الذهب والفضة كما دول العالم مستويات قياسية عام 2025، تقلّصت تجهيزات العرائس إلى الحدّ الأدنى. فبعدما كانت الأطقم الكاملة من الذهب جزءاً أساسياً من جهاز العروس، باتت التجهيزات تقتصر على المحبس فقط، ذهب للعروس وفضة للعريس، بتكلفة لا تقل عن 350 دولاراً للزوجين معاً.
بين الفرح الممكن .. وضغط المعيشة
في أسواق الحميدية وخان القيشاني وسط دمشق، حيث تصطف محالّ الأقمشة وفساتين الزفاف والبدلات البيضاء، لا يغيب الازدحام هذه الأيام. فبحسب ما رصدته "المدن"، يشهد موسم الأعراس في العام 2025 حركة نشطة تفوق السنوات السابقة، رغم استمرار الغلاء وصعوبة الأوضاع المعيشية.
في أحد محال تجهيز العرائس، تقول باسمة، وهي عاملة منذ سنوات في هذا المجال، إن الفترة الحالية تُعد موسم الذروة، موضحة أن "تكاليف تجهيز العروس تبدأ عادة من مليونين إلى ثلاثة ملايين ونصف ليرة (ما بين 200 و400 دولار)، وتشمل كامل المستلزمات لليلة الزفاف".
وتضيف أن بعض الزبائن يختصرن في الشراء بسبب ضيق الحال، "لكننا نحاول المساعدة عبر حسومات على إيجار الفستان مثلاً"، وتشير إلى أن هناك عرائس يفضلن الشراء لا الاستئجار، بأسعار تبدأ من 3 إلى 5 ملايين ليرة (نحو 300 إلى 500 دولار) باختلاف التصميم والقماش، مؤكدة أن "الإقبال اليومي مكثف أكثر من الأعوام الماضية".
من جانبه، يقول باسل الشيخة، العامل في أحد محلات تفصيل فساتين الزفاف في خان القيشاني، إن "أغلب المبيعات تكون بالجملة، لكننا نفصّل أي موديل تطلبه الزبونة". ويؤكد أن التشكيلات تتجدد يومياً "بأنواع أقمشة فاخرة وتصاميم جديدة"، مشيراً إلى أن نسبة الإقبال تصل إلى 80 في المئة بفضل تنوع الأسعار التي تبدأ من مليون ونصف ليرة (حوالي 150 دولاراً) وتزداد حسب نوع القماش والتفصيل.
أما محمد غنّام، الذي يعمل في محل لتأجير وبيع بدلات العرائس، فيوضح أن "الإيجار يبدأ من 600 ألف ليرة (نحو 60 دولاراً) إذا كان الفستان مستعملاً، ويصل إلى أكثر من مليون وثلاثمئة ألف للفستان الجديد، أي ما يقارب 100 دولار، بينما يبدأ سعر الشراء من مليونين". ويقدّر أن "جهاز العروس الكامل مع مستلزماته يصل إلى نحو 10 ملايين ليرة، أي ما يقارب ألف دولار".
في السوق ذاته، يشير محمد سعيد، أحد أقدم البائعين في خان القيشاني، إلى أن "هذا السوق تاريخياً هو وجهة أساسية لتجهيز العرائس، وتغيّرت تجهيزاته بتغيّر الموديلات والأقمشة". ويضيف أن الأسعار في عام 2025 "انخفضت مقارنة بعام 2024 حين كانت الأقمشة المستوردة مرتفعة الثمن"، موضحاً أن "تفصيل فستان بسيط اليوم قد لا يتجاوز 600 ألف ليرة (نحو 60 دولاراً)".
من جانبها، تقول سيدة كانت تبحث عن فستان لابنتها: إن الأسعار "تختلف بين الأسواق، ففي سوق كراج الست المعروف أنفقت نحو 500 ألف ليرة فقط، بينما في الحميدية الأسعار أعلى قليلاً، لكنها تبقى أقل بكثير من العام الماضي". وتشير إلى أن "تجهيز العروس كان يحتاج سابقاً نحو 16 مليون ليرة (حوالي 1600 دولار)، أما اليوم فقد يُنجز تجهيز متواضع بحوالي 7 ملايين ليرة (نحو 700 دولار)، وهو مبلغ لا يزال كبيراً على ذوي الدخل المحدود، لكنه أخف من السابق".
تكاليف الفرح: من 2 حتى 10 ملايين
الأسعار المتفاوتة بين البيع، الإيجار، والتفصيل، تعكس مرونة السوق الدمشقي، حيث يستطيع معظم الزبائن إيجاد خيارات تناسب إمكانياتهم، بينما يجد أصحاب الدخل المحدود صعوبة في شراء كل مستلزمات العرس. ومع ذلك، توفر خيارات الإيجار والتفصيل حلولاً وسطاً، ما يحافظ على استمرارية السوق رغم الأزمات.
كيف تغيّر تجهيز العروس؟
قبل العام 2011، كانت تكاليف تجهيز العروس في دمشق تراوح عادة بين 250 و300 ألف ليرة سورية، وتشمل الفستان، الإكسسوار، وبعض المستلزمات الأساسية للزفاف، وكانت هذه التكاليف ملائمة لمعظم العائلات، حتى عند اختيار مستلزمات عالية الجودة.
بعد ذلك، ومع تغير الأسعار وارتفاع تكاليف المواد المستوردة والطاقة، شهدت تجهيزات العروس ارتفاعًا تدريجيًا، حتى وصلت بعض الحالات إلى 5 ملايين ليرة في العام 2022.
وبحلول العام 2025، ومع تنوع خيارات الإيجار والتفصيل، أصبح في الإمكان تجهيز العروس بتكلفة أقل نسبيًا، بين 7 و10 ملايين ليرة، بحسب نوعية المستلزمات والفستان، مع حفاظ السوق على حركة نشطة بفضل تنوع الأسعار وخيارات المرونة بين الشراء والاستئجار.
وعليه، ترتبط هذه التغيرات بعوامل اقتصادية رئيسية تشمل أسعار المواد الخام، تغير قيمة الليرة مقابل الدولار، وتكاليف التشغيل والطاقة، إضافة إلى تحول بعض العادات بين شراء الفستان أو استئجاره لتقليل النفقات، مما يعكس قدرة السوق الدمشقي على التكيف مع الظروف الجديدة.
فرحٌ مؤجل... لكنه مستمر
ورغم التحديات الاقتصادية التي ترخي بثقلها على معظم السوريين، يبقى موسم الأعراس هذا العام مختلفاً في ملامحه، فالإقبال المتزايد على الأسواق، وتنوّع الخيارات بين الإيجار والتفصيل والشراء، يعكسان رغبة الناس في استعادة بعض مظاهر الفرح المفقودة، ولو في حدود الإمكانات المتاحة.
يقول أصحاب المحال لـ"المدن" إن الحركة الحالية تحمل مزيجاً من "التأقلم والأمل". فالعروس اليوم توازن بين حساب التكاليف ورغبتها في ليلة لا تُنسى، بينما يسعى التجار والعاملون في هذا القطاع لتقديم عروض وتخفيضات تحافظ على دورة السوق.
وفي بلدٍ أنهكته الأزمات، يبدو الزفاف الدمشقي واحداً من تفاصيل الحياة التي تصرّ على الاستمرار، فرحٌ لا يُلغيه الغلاء، بل يعيد تعريفه بما تيسّر من زينة وأحلام.
