مع اقتراب لبنان من عتبة "اليوم التالي" للحرب الإسرائيليّة، تستعيد الكهرباء موقعها كإحدى أكثر القضايا احتقانًا وراهنيّةً في الاقتصاد السّياسيّ اللّبنانيّ، وفي هذا السّياق، دعا "برنامج السّياسات البيئيّة" في مبادرة الإصلاح العربيّ إلى منتدى سياساتٍ عامّة بعنوان "من الحرب إلى الواطّات (الوات)، إعادة الإعمار ومستقبل قطاع الطاقة"، على مدى يومين في 23 و24 من تشرين الأوّل الجاري، حيث خصّص اليوم الأوّل لمنتدى السّياسات المفتوح، والثاني لورشةٍ مغلقةٍ لتصميم خارطة مناصرةٍ مشتركةٍ وإطلاق تحالفاتٍ مدنيّةٍ وخبرويّةٍ عابرةٍ للمنظّمات.
إطار المنتدى ومحاوره
افتتح اليوم الأوّل بكلمةٍ ترحيبيّة، قبل ثلاث جلساتٍ متتالية، الجلسة الأولى حدّدت "المبادئ العامّة لقطاع طاقةٍ عادل" وقدّمت أدلّةً جديدةً حول مسارات التعافي الطاقويّ بعد الحرب، عبر أوراق موقفٍ ودراساتٍ وسياساتٍ عامّة، وبمداخلاتٍ لدانا أبي غانم، وياسمينة الأمين، وسهى منيمنة، وإيريك فرديل، بإدارة الصحافيّة آية مجذوب، وهكذا جرى تثبيت لغةٍ منهجيّةٍ لقياس العدالة والاستدامة داخل قطاع الكهرباء، لا على هامشه.
الجلسة الثانية بحثت "مستقبل الطاقة في لبنان" من ثلاث زوايا متلازمة، اللامركزيّة "الميكروغريدز"، والتمويل المبتكر والنماذج الممزوجة، والديناميّات الإقليميّة "الغاز الطبيعيّ، الربط، وحصّة المتجدّدات"، بمشاركة نيكولا فرحات، ولوري حطايان، وجوزف الأسد، وحسن حراجلي، بإدارة سارين كاريجيريان، أمّا الجلسة الثالثة فذهبت إلى قلب "حوكمة" القطاع، خرائط الفاعلين، وتموضع المجتمع، ودور البيانات والشفافيّة، مع مداخلاتٍ لبيار سعادة، وديانا قيسي، وسابين سعد، وإلياس كنّاب، بإدارة الصحافيّة سوزان بعقليني، وتضمّن البرنامج أيضًا كلمةً أو نقاشًا مع وزير الطاقة والمياه، قبل الخلاصات الختاميّة.
كهرباءٌ تغذّي الركود
اقتصاد لبنان، المثقل بانكماشٍ ممتدٍّ منذ 2019، يرزح تحت ثلاثة أثقالٍ متداخلة، أزمةٌ ماليّةٌ، نقديّةٌ أطاحتْ قدرة الدولة على التمويل، وتفكّكٌ مؤسّساتيٌّ أضعف القاعدة التنظيميّة للقطاع، وفجوة ثقةٍ بين المواطنين والدولة انتقلتْ من المصارف إلى العدّادات، قبل الحرب 2023–2024، كان قطاع الكهرباء ذاته نموذجًا لأزمة "الريع السياسيّ"، خسائر تشغيليّةٌ مزمنة، عقود محروقاتٍ ومعامل "طارئة"، وتعرفةٌ لا تغطّي الكلفة، ومزاجٌ سياسيٌّ عطّل الاستثمارات في النقل والتحكّم والقياس الذكيّ، ثمّ جاءت الحرب لتضيف طبقة دمارٍ مادّيٍّ على ركام الفشل المؤسّسيّ، تقدّر أضرار قطاع الطاقة بنحو 207 ملايين دولارٍ، وهي لا تعكس سوى بنية "كهرباء لبنان" المركزيّة، فيما لا تتوفّر بياناتٌ منهجيّةٌ حول ما أصاب الأنظمة الشمسيّة المنزليّة وشبكات المولّدات الخاصّة، رغم دورها المركزيّ في تلبية الحاجات اليوميّة، والأهمّ أنّ الدمار السكنيّ، يشكّل 67% من إجماليّ الأضرار، يعني عمليًّا القضاء على جزءٍ كبيرٍ من أنظمة الطاقة المنزليّة التي وفّرتْ "شبكات أمانٍ" كهربائيّةً خلال الانهيار.
قبيل الحرب، كان لدى لبنان نحو 1300 ميغاواط من مصادر متجدّدةٍ مركّبة، معظمها شمسيٌّ موزّعٌ يعتمد عليها السكّان في ظلّ غياب تغذيةٍ عامّةٍ موثوقة، تدمير أكثر من 60 ألف لوحٍ شمسيٍّ، وتضرّر محطّات ضخّ مياهٍ صغيرةٍ، يلخّص هشاشة هذه اللامركزيّة من جهةٍ، وضرورتها من جهةٍ ثانية، لذا تصبح العدالة في مجال الطاقة معنًى عمليًّا، كيف ننظّم، ونربط، ونحمي، ونسعّر، بدل أن نترك الأسر تشتري أمانها كهربائيًّا، كلٌّ على طريقته ووفق قدرته؟
سارين كاريجيريان، مديرة برنامج السياسات البيئيّة في مبادرة الإصلاح العربيّ، تشدّد على وظيفة المنتدى كمساحة ربطٍ وتحالفٍ، "نريد بناء مساحة حوارٍ للأخصّائيّين في قطاع الطاقة، رؤساء بلديّاتٍ واتّحاداتٍ، وبلديّاتٍ من القرى الحدوديّة لفهم المعاناة، الدولة ليستْ حاضرةً بما يكفي، تعلّمْنا من الماضي أنّه لا يجوز أن نبني كما في التسعينيّات وما بعدها، ثمّة هيئةٌ ناظمةٌ عيّنت، فهل هي موجودةٌ فعليًّا وقادرةٌ أن تكون المرجعيّة لإعادة الإعمار؟ وهل يمكنها استعادة ثقة الناس والفئات المهمّشة والمهجّرين؟ نريد تحالفًا بين المجتمع المحلّيّ والدوليّ لتقديم توصياتٍ للمستقبل، واختبار ما إذا كانت الحلول البلديّة والأهليّة مستدامةً ومناسبةً تقنيًّا وماليًّا".
منهجيّة البحث ومجاله
ينطلق التقرير من مراجعةٍ مكتبيّةٍ للمراجع الأوّليّة والثانويّة المتعلّقة بقطاع الطاقة وحوكمته وأطر إعادة الإعمار، ومن عملٍ ميدانيٍّ في آذار 2025 شمل عشر بلداتٍ في الجنوب والبقاع، بمقابلاتٍ شبه منظّمةٍ مع مسؤولي بلديّاتٍ ومؤسّسة كهرباء لبنان ومزوّدي/مركّبي الأنظمة الشمسيّة وسكّانٍ محلّيّين، ومن 15 مقابلةً معمّقةً مع مانحين وخبراء طاقةٍ وصحافيّين وفاعلين مدنيّين، ومن بياناتٍ ثانويّةٍ "صور أقمارٍ صناعيّةٍ من المركز الوطنيّ للبحوث العلميّة وخرائط الجمعيّة اللبنانيّة للطاقة الشمسيّة"، وتحليلٍ للأطر السياسيّة والتمويليّة بما فيها قرض "التعافي وإعادة الإعمار" LEAP والقرض المخصّص للكهرباء، النطاق الجغرافيّ يتركّز في الجنوب والبقاع والقرى الحدوديّة الأكثر تضرّرًا.
خلاصة المداولات، عدالةٌ تبدأ من السكن وتترجم تنظيمًا
-
العدالة والسكن أوّلًا، لا عدالة طاقويّة بلا سقفٍ يأوي أصحاب العدّادات، بما أنّ السكن يمثّل الحصّة الأكبر من الخسائر، فإنّ أيّ نقاشٍ حول الطاقة ينبغي أن يبدأ بإعادة بناء المنازل، خصوصًا في القرى الحدوديّة، يعني ذلك ترتيب الأولويّات الماليّة لتوجيه جزءٍ معتبرٍ من الموارد إلى إعادة الإعمار السكنيّ المقرون بحلول كفاءة الطاقة "عزلٌ حراريّ، تجهيزاتٌ موفّرة، وأكواد بناءٍ تطبّق فعلًا"، بدل إعادة إنتاج منازل كثيفة الاستهلاك تفاقم الفاتورة على الأسر والدولة.
-
اللامركزيّة المنظّمة لا "الفوضى الذكيّة"، أثبتت الأنظمة الشمسيّة الموزّعة قدرتها على تخفيف العتمة، لكنّها أظهرتْ أيضًا هشاشتها أمام القصف والنهب وغياب الصيانة، العدالة تقتضي تقنين اللامركزيّة المتجدّدة وربط أنظمة البلديّات، حيثما أمكن، بالشبكة، وتيسير "الاستهلاك الجماعيّ الذاتيّ" ضمن أطرٍ واضحةٍ، مع إعفاءاتٍ وتدابير إنصافٍ تصمّم للفئات الهشّة وللمستأجرين، لا أن يستفيد منها القادرون وحدهم.
-
قطيعةٌ مع فشل الماضي، الجهود مبعثرةٌ بين الحكومة والمانحين والفاعلين الحزبيّين، ممّا يهدّد بإعادة تدوير أنماط الإقصاء، هنا تكتسب "الهيئة الناظمة" المنشأة حديثًا معناها إنْ هي مارستْ دورها التنظيميّ بأولويّات العدالة والشفافيّة، والمطلوب ربط إطار عمل LEAP بالقرض المخصّص للكهرباء ضمن سلّة إصلاحٍ متكاملة، تأهيل الشبكة نقلًا وتوزيعًا، ومركز تحكّمٍ وقياسٍ ذكيّ، ودمجٌ منظّمٌ للمتجدّدات على الشبكة، وبناء قدرات "كهرباء لبنان" لاستعادة دور "المرفق العامّ" لا "المتعهّد المؤقّت".
-
التمويل العادل والمستدام، يدعو المنتدى إلى صندوق إعادة إعمارٍ مستقلٍّ وشفّافٍ، يشارك فيه المغتربون، لتوجيه الموارد نحو السكن والطاقة المتجدّدة والخدمات الحيويّة، ويمكن للأدوات المبتكرة، مثل "عقود أداء الطاقة" حيث تموّل الشركات التركيب ويسدّد القسط من وفورات الاستهلاك، أن تخفّف كلفة الاستثمار الأوّليّة على البلديّات والأسر، كما أنّ إدارة دورة حياة الأنظمة الشمسيّة "إعادة تدويرٍ آمنٌ والتخلّص من المتضرّر" جزءٌ من التعافي لا ملحقٌ بيئيّ.
-
حماية المستهلك والشفافيّة، يجب تثبيت الإعفاءات الضريبيّة للطاقة المتجدّدة وترجمتها إلى انخفاضٍ فعليٍّ في الأسعار النهائيّة عبر الإفصاح الإلزاميّ عن التكاليف، وإنشاء سجلٍّ عامٍّ للمورّدين المعتمدين، مع دعمٍ موجّهٍ ومشروطٍ يصل إلى الأسر الضعيفة والمناطق المتضرّرة، بدل "الدعم المعمّم" الذي يستنزف المال العامّ ويعيد إنتاج اللامساواة.
في حديثه إلى "المدن" يلفت جوزاف الأسد، رئيس "مركز لبنان لحفظ الطاقة" وعميد كليّة الهندسة في جامعة الكسليك، إلى ضرورة الانضباط الرّقميّ في تقدير الخسائر، "صحيحٌ أنّ هناك أرقامًا مختلفةً متداولة، ونحن نفضّل انتظار مؤسّسة كهرباء لبنان لتصدر أرقامها الرسميّة، فلتقلْ هي الأرقام لا نحن، أمّا بشأن الخسائر بعد الحرب الإسرائيليّة، فهناك رقمٌ مؤكّدٌ يجرى الحديث عنه، نحو 200 ميغاواط من ألواح الطاقة الشمسيّة تضرّرتْ في الجنوب والبقاع ومناطق مختلفة، كما تضرّرت محطّاتٌ صغيرةٌ لضخّ المياه"، ويضيف "تقرير PV Status Market Report لعام 2023، الذي أصدرناه مؤخرًا، يشير إلى نحو 1200 ميغاواط مركّبةٍ من الطاقة الشمسيّة، وقد تجاوزْنا 20% من المزيج، بين 20 و25%، بحسب معيار الاحتساب، تقرير 2024 سيتضمّن ما تضرّر جرّاء الحرب".
هذه الشهادة تحيل إلى مسألتين جوهريّتين، هشاشة المخزون الشمسيّ الموزّع من جهة، وحاجة صانع القرار إلى بياناتٍ موحّدةٍ و"مرجعيّةٍ" تنظيميّةٍ تعيد ضبط السوق، من التعرفة العادلة إلى ربط "الميكروغريدز" بالشبكة العامّة.
من جهتها، سهى منيمنة، الباحثة المتخصّصة بالتنظيم المدنيّ، تصوّب البوصلة، "التحدّي الأكبر اليوم هو وقف الحرب نهائيًّا وتوفير أموالٍ لإعادة الإعمار، لكنّ الخطر أن تتشكّل إعادة الإعمار وفق شعار "كما كان"، الذي تتبنّاه قوى سياسيّةٌ كحزب الله، وتدفع التشريعات نحوه ضمنيًّا"، وتوضّح "الناس يقودون عمليّة إعادة الإعمار بأنفسهم، إعادة بناءٍ وتركيب أنظمةٍ شمسيّةٍ أو العودة إلى المولّدات، فيما تركّز المؤسّسات الرسميّة على الأموال أكثر من الحلول، المطلوب حلولٌ مجتمعيّةٌ لا فرديّةٌ فقط، مع تخفيف الاستهلاك عبر تدقيق الطاقة وتطبيق قوانين البناء".
هنا تتقاطع مقاربة "العدالة" مع "التنظيم المدنيّ"، لا يكفي أن يتوفّر التمويل، بل ينبغي توجيهه نحو تصميمٍ حضريٍّ وكهربائيٍّ يخفّض الطلب ويعيد توزيع المنافع.
من "تركيب ألواحٍ" إلى "تركيب عقدٍ اجتماعيّ"
والحال إنّه، لا يمتلك لبنان رفاهيّة إعادة الإعمار "كما كان"، فالطاقة ليستْ قطاعًا تقنيًّا فحسب، بل اختبارٌ لعقدٍ اجتماعيٍّ جديد، من يقرّر، من يدفع، من يستفيد. المنتدى، ببنيته ثنائيّة الطور وبمزجه البحث بالتأثير، يقترح جوابًا عمليًّا، توسيع دائرة القرار لتشمل البلديّات والاتّحادات والمجتمع المهنيّ والمدنيّ، وتقييد مسارات التمويل بمعايير العدالة والمساءلة، وإعادة تعريف "المرفق العامّ" كمنصّة إدماجٍ تنظّم اللامركزيّة بدل أن تصادمها، إنّه انتقالٌ من "ألواحٍ على السطوح" إلى "سياساتٍ على طاولةٍ مشتركة".
