شكل توقيع وزارة الاقتصاد والصناعة السورية لمذكرة تفاهم مع مجموعة "فيرتكس" العراقية للاستثمارات لإعادة تأهيل وتشغيل الخط الثالث في معمل إسمنت حماة خطوة نوعية في مسار إعادة إحياء القطاع الصناعي الثقيل في سوريا، إذ يأتي المشروع ضمن خطة حكومية تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي، سد الفجوة بين العرض والطلب، ودعم مشاريع إعادة الإعمار، في وقت يعاني فيه السوق المحلية من الإغراق بالإسمنت المستورد الرخيص.
لكن المشروع لا يقتصر على زيادة الطاقة الإنتاجية، بحسب خبراء، بل يحمل رسائل اقتصادية واستثمارية وسياسية حول جاذبية السوق السورية للاستثمارات الاستراتيجية، وإمكانية تطوير التعاون الصناعي مع الشركاء الإقليميين.
رفع القدرة الإنتاجية وتعزيز السوق
هذا وتنص مذكرة التفاهم على رفع الطاقة الإنتاجية للخط الثالث من 3300 طن يومياً إلى 5000 طن كلنكر يومياً، إضافة إلى إنشاء خط إنتاج جديد بطاقة 6000 طن يومياً، ليصل إجمالي الطاقة الإنتاجية للمعمل إلى نحو 11 ألف طن يومياً خلال السنوات الخمس المقبلة.
ومن المقرر أن يُستكمل تأهيل الخط الثالث ويبدأ تشغيله خلال 13 شهراً من تاريخ توقيع العقد.
هذه الأرقام تعكس توجهاً واضحاً نحو سد النقص في المعروض المحلي من مادة الإسمنت، في ظل ارتفاع الطلب المتوقع مع تسارع مشاريع البناء والإعمار في مختلف المحافظات، الأمر الذي من شأنه إعادة التوازن إلى السوق المحلية وتقليص الحاجة إلى الاستيراد.
واقع شركات الإسمنت.. وتحدي المنافسة
ومنذ مطلع عام 2025، عانت شركات الإسمنت الوطنية من ضغوط كبيرة بسبب الإغراق بالإسمنت المستورد منخفض السعر، ما أدى إلى تراجع الأسعار محلياً وتقليص هوامش الربح بشكل مؤثر.
ومع بدء تنفيذ المشروع الجديد في حماة، يتوقع أن تُخفف الضغوط السوقية تدريجياً من خلال زيادة المعروض المحلي وتوفير مادة إسمنت وطنية بأسعار أكثر استقراراً، ما يعزز القدرة التنافسية للمنتج السوري أمام المستورد، ويدعم سياسة الدولة في تقليص فاتورة الاستيراد.
خريطة جديدة لقطاع الإسمنت السوري
يقول الخبير الاقتصادي عامر ديب، إن توقيع مذكرة التفاهم الخاصة بمعمل إسمنت حماة يشكّل منعطفاً حقيقياً في مسار الصناعة الثقيلة السورية، ويعبّر عن تحول استراتيجي في سياسة الإنتاج الوطني.
ويشير ديب لـ "المدن"، إلى أن رفع الطاقة الإنتاجية إلى 11 ألف طن يومياً يساهم مباشرة في سد الفجوة بين الطلب والإنتاج المحلي، ويقلل الاعتماد على الاستيراد، إلى جانب خلق فرص عمل جديدة وتحفيز استثمارات إضافية في قطاع يعتبر حجر الأساس في عملية الإعمار.
ويضيف ديب أن التعاون مع مستثمر خارجي – عراقي – يعكس ثقة إقليمية متنامية بالسوق السورية، رغم التحديات الاقتصادية والسياسية، لكون قطاع الإسمنت من القطاعات ذات الطبيعة الثابتة طويلة الأمد التي تعتمد على الموارد المحلية مثل الحجر الكلسي والطاقة.
ويتابع ديب موضحاً أن المذكرة لا تقتصر على خطوط الإنتاج فحسب، بل تشمل تدريب وتأهيل الكوادر الفنية، ورفع كفاءتهم، وتطبيق أعلى معايير الجودة والبيئة والسلامة المهنية، ما يجعل المشروع نموذجاً متقدماً للاستثمار الصناعي المستدام.
كذلك، يرى أن تطوير البنية التحتية للنقل والتوزيع سيسهم في تعزيز كفاءة الإنتاج، وتحويل معمل إسمنت حماة إلى أحد الأعمدة الصناعية الرئيسة في سوريا خلال السنوات المقبلة.
أما التحديات، فيشير ديب إلى وجود تساؤلات حول مصادر الطاقة اللازمة لتشغيل الخطوط الجديدة، ومدى قدرة السوق المحلية على استيعاب الكميات الإضافية في ظل ضعف القوة الشرائية، إلى جانب ضرورة التزام المستثمر بالجدول الزمني المحدد لتأهيل الخط الثالث خلال 13 شهراً.
ويعكس المشروع، وفقاً للخبير الاقتصادي، إرادة حقيقية لإعادة بناء القاعدة الصناعية السورية، وقد يشكّل نموذجاً للتكامل الاقتصادي الإقليمي الذي يجمع بين إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات العربية.
مشاريع موازية... وتوسع استثماري متسارع
بالتوازي مع مشروع حماة، أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة عن توقيع عقد لإنشاء معمل إسمنت جديد في محافظة ريف دمشق بتكلفة استثمارية تبلغ 200 مليون دولار، ما يعزز توجه الحكومة نحو توسيع قاعدة الإنتاج الصناعي في هذا القطاع الحيوي.
وبحسب المدير العام للشركة العامة لصناعة وتسويق الإسمنت محمود فضيلة، فإن عدداً من المعامل الوطنية سيعود للإنتاج قريباً، في حين ستستأنف بعض المنشآت عملها بعد الصيانة خلال الشهرين القادمين، مثل معمل إسمنت طرطوس الذي دخل فيه المستثمر فعلياً.
وأشار فضيلة إلى أن مشروع حماة يسير بالتوازي مع معمل ريف دمشق الجديد، ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل المعملين في الوقت نفسه، مؤكداً أن جميع معامل الإسمنت الحديثة ستدخل مرحلة التشغيل الكامل خلال نحو ثلاث سنوات، ما سيؤدي إلى تأمين حاجة السوق المحلية وطرح أصناف جديدة من الإسمنت السوري في الأسواق.
شراكات عربية جديدة... وعودة رأس المال الصناعي
في سياق متصل، يشهد قطاع الإسمنت توسعاً في الشراكات الإقليمية، حيث رسا عقد استثمار مطاحن معمل إسمنت طرطوس على مجموعة "كيو بي زد" الإماراتية، وفق نظام B.O.T لمدة عشر سنوات، وبطاقة إنتاجية تصل إلى ثمانية آلاف طن يومياً.
وبناء عليه، فإن نجاح هذه المشاريع سيبقى رهناً بقدرة الدولة والمستثمرين على تجاوز تحديات الطاقة والتمويل والإدارة الحديثة، وضمان تسويق الإنتاج في سوق محلية تعاني من ضعف القوة الشرائية.
ورغم الزخم في التوقيع والوعود، فإن الاختبار الحقيقي يبدأ عند دخول خطوط الإنتاج حيز التنفيذ، حينها فقط يُعرف ما إذا كان هذا الإسمنت سيبني فعلاً جدار الاقتصاد السوري... أم يغطي تشقّقاته.
