مثّلت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لحظة تحوّل مفصلية في التاريخ اللبناني الحديث، لا يمكن تحليل أثرها المستمر بالمقاربات السياسوية التقليدية، فهي لم تكن مجرّد تعبيرٍ تاريخي عن تراكم التناقضات في البنية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل كشفت النقاب عن أزمة جوهرية متأصلة في بنية النظام السياسي الطائفي. جاءت الانتفاضة كاستجابة لانهيار اقتصادي ومالي بدأت مؤشراته تظهر قبل أشهر من اندلاع الاحتجاجات التي سرّعت وتيرتها. كما أن التحذيرات النقدية وانتقادات سياسات حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة لم تُؤخذ على محمل الجد، بل اتُهم ناقدو "الهندسات المالية" ورفع أسعار الفائدة بمحاولة تقويض الليرة. وشكّل شح الدولار، وعجز المصارف عن تلبية السحوبات، وطوابير الوقود مؤشرات مبكرة على أزمة سيولة كانت نتيجة تراكم اختلالات في نموذج اقتصادي ريعي قائم على الاقتراض والاستهلاك.
ورغم محاولات تصوير الانتفاضة كمسبب للأزمة، تُظهِر الوقائع أنها كانت ردة فعل على أزمة نضجت شروطها خلال سنوات. وبعد ست سنوات، لا تزال الأسباب الجذرية دون معالجة، فلم يشهد لبنان تعافيًا نقديًا حقيقيًا، وتواصل معدلات الفقر والبطالة والتضخم ارتفاعها، فيما تتدهور البنى التحتية والخدمات الأساسية ويغيب الإصلاح الضريبي، مع اعتماد شريحة كبيرة من اللبنانيين على التحويلات المالية. ولا يمكن تفسير هذا الفشل بالظروف الأمنية الاستثنائية فقط، فمن غير المقبول أن تمر 6 سنوات على الانهيار من دون إقرار قانون "الكابيتال كونترول"، رغم منع صغار المودعين من سحب ودائعهم والتساهل مع كبارهم في تهريب مليارات الدولارات خارج لبنان. فقد تجاوزت الأموال المهربة منذ عام 2018 وحتى الانتفاضة 10 مليارات دولار، وتخطت 8 مليارات دولار خلال فترة الانتفاضة في 2019، بينما تشير تقارير إلى بدء عمليات تهريب الودائع الكبيرة منذ 2016 مع انطلاق عمليات "الهندسات المالية". ويؤكد عدم إقرار قانون لإعادة هيكلة المصارف، وغيره الكثير من القوانين الإصلاحية الأساسية، تواطؤ المستوى السياسي الذي عرّته انتفاضة تشرين.
لفهم حجم هذا التحوّل، ومدى استمرار تداعيات الانهيار، لا بد من مقارنة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية قبل الانهيار والانتفاضة بما آلت إليه لاحقًا.
غياب الثقة في القطاع المصرفي
على الرغم من مرور ست سنوات على الانهيار المالي، لا تزال الثقة في القطاع المصرفي اللبناني شبه معدومة، رغم تباطؤ وتيرة الانهيار، حيث تُظهر تقارير مصرف لبنان السنوية انكماشًا حادًا في إجمالي موجودات المصارف. وقد بلغ إجمالي موجودات المصارف 185 مليار دولار في نهاية العام 2015، و204 مليار دولار في نهاية 2016، و220 مليار دولار في نهاية 2017، ووصل إلى الذروة حين بلغ 254 مليار دولار في نهاية 2018، قبل أن يبدأ بالتراجع الحاد في نهاية عام 2019 حيث بلغ 216.8 مليار دولارًا، و188 مليار دولارًا في نهاية 2020، و175 مليار دولارًا في نهاية 2021، و169 مليار دولارًا في نهاية 2022، و115 مليار دولارًا في نهاية 2023، و102.7 مليار دولارًا في نهاية 2024. ووفقًا لتقرير مراجعة الاقتصاد الكلي الصادر عن مصرف لبنان، فقد انخفض إجمالي حجم الميزانية العمومية من 256 مليار دولار في حزيران/ يونيو 2019 إلى 103.5 مليار دولار في حزيران/يونيو 2025، بانخفاض قدره 59.6%، مما يُبرز حجم التدهور العميق في القطاع.
استمرار العجز رغم تغطيته بأرقام وهمية
يواصل عجز ميزان المدفوعات مساره التراكمي، رغم تفاوت حدته بسبب تحويلات المغتربين وإجراءات التقشّف الحاد وانخفاض واردات السلع وارتفاع سعر الذهب. فقد سجل الميزان عجزًا تراكميًا بمقدار 4.8 مليار دولار في نهاية العام 2018، و4.4 مليار دولار في نهاية العام 2019، و10.6 مليار دولار في نهاية 2020، و2 مليار دولار في نهاية 2021، و3.2 مليار دولار في نهاية 2022، قبل أن يحقّق فائضًا بمقدار 2.2 مليار دولار في نهاية 2023 رغم تحقيق الميزان التجاري عجزًا بمقدار 14.5 مليار دولار في نهاية العام نفسه، ثم فائضًا بمقدار 6.44 مليار دولار في نهاية 2024 رغم تحقيق الميزان التجاري مجددًا عجزًا بمقدار 14.2 مليار دولار في نهاية العام نفسه، ونحو 2 مليار دولار في النصف الأول من العام 2025. وعلى الرغم من ظهور فائضٍ في ميزان المدفوعات، إلا أنه مدفوعٌ بشكل أساسي باستقرار تحويلات المغتربين من جهة، والارتفاع الكبير في سعر الذهب من جهة أخرى. والارتفاع في سعر الذهب يعكس ارتفاع القيمة الدفترية لأصول غير قابلةٍ للبيع بموجب القانون رقم 1986/42، وثلثي هذه الأصول ليست في تصرّف السلطات اللبنانية أساسًا. كما أن العجز الهيكلي في الميزان التجاري (الواردات أعلى من الصادرات) مقابل تحقيق فائض في ميزان المدفوعات يُظهِر تكريس الاعتماد على تحويلات المغتربين، وهو أمرٌ ينذر بخطرٍ مزدوج، فهو من جهة، يجعل من لبنان عرضةً للتأثر بشكل كبير بالتقلبات العالمية لأسعار السلع الأساسية والنفط، ومن جهة أخرى، يضاعف من هشاشة الوضع النقدي في مواجهة أي عقوبات مالية محتملة أو تدهورٍ إضافي في الظروف الأمنية.
ارتفاع الدين العام الخارجي
يواصل الدين العام اتجاهه التصاعدي، إذ ارتفعت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام 2018 إلى نحو 150%، ليبلغ حوالي 85.1 مليار دولار. وفي نهاية 2019 ارتفعت هذه النسبة إلى نحو 162%، ليبلغ حوالي 91.6 مليار دولار. وفي نهاية 2020 ارتفعت إلى نحو 169%، ليبلغ حوالي 95.6 مليار دولار. وفي نهاية 2021 تراجع الدين العام ليبلغ حوالي 62.42 مليار دولار نتيجة الانخفاض الكبير في قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، وعدم استمرار الحكومة في إصدار سندات جديدة بالليرة، وتسديدها للسندات المستحقة بالليرة، مما جعل قيمة الدين المقوّم بالليرة أقل بكثير عند تحويله بأسعار السوق وفقًا لـ "بلوم إنفست"، ورغم ذلك استمر ارتفاع الدين العام الخارجي بالدولار حيث بلغ 38.515 مليار دولار. وفي نهاية 2022 انخفضت نسبة الدين العام المحلي الصافي بنحو 3.8%، مقابل زيادة نسبة الدين العام الخارجي بنحو 7.3%، ليبلغ الدين العام الخارجي 41.337 مليار دولار. ولم تصدر وزارة المالية أي بيانات رسمية في عامي 2023 و2024 فيما يخص الدين العام، إلا أن بيانات البنك الدولي تشير إلى ارتفاع كبير في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023 إلى نحو 219%، ثم انخفاضها إلى نحو 177% في العام 2024. وتكمن الخطورة في الزيادة المستمرة للدين العام الخارجي، التي قد تتفاقم بسبب الحرب الإسرائيلية وتكاليف إعادة الإعمار.
تضخم مفرط وقدرة شرائية متآكلة
قاد تدهور سعر صرف الليرة إلى موجة تضخم مفرط طالت جميع السلع المستوردة ثم المحلية. ولم يكن أثر هذا التضخم متساويًا، إذ يشير البنك الدولي إلى أن العاملين الذين يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية عانوا من نتائج تضخمٍ تراكمي بلغ نحو 5971% بين عامي 2019 و2024، وطال التضخم أيضًا أولئك الذين يتقاضون أجورًا بالدولار رغم تضاعف قدرتهم الشرائية في عامي 2020 و2021، فانخفضت قدرتهم الشرائية تباعًا نتيجة رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية ودولرة الاقتصاد المحلي. ووفقًا للتقارير الرسمية، فقد بلغ معدل التضخم 2.9% في نهاية عام 2019، و84.9% في نهاية 2020، و154.8% في نهاية 2021، و171.2% في نهاية 2022، و221.3% في نهاية 2023، و45.2% في نهاية 2024. في الوقت الذي تستمر فيه القدرة الشرائية للأجور بالتراجع، وأزمة البطالة بالتفاقم.
تراجع النمو الاقتصادي
وفقًا لتقارير البنك الدولي ومصرف لبنان، كانت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في لبنان سلبية بشكل حاد بين عامي 2019 و2024، علمًا أن النمو سجّل معدلًا سلبيًا (تحت الصفر) لأول مرة منذ 19 عامًا في عام 2018، حيث بلغ معدلًا سلبيًا 1.9%، مما يدل على عمق الأزمة الاقتصادية والمالية قبل أكثر من سنة من الانتفاضة. ثم انخفض معدل النمو أكثر ليسجّل معدلًا سلبيًا 6.9% في العام 2019، وانخفض أكثر ليسجل معدلًا سلبيًا %21.5 في نهاية 2020، قبل أن يشهد بعض التعافي في السنوات اللاحقة، حيث سجل معدلًا سلبيًا %7 في نهاية 2021، ومعدلًا سلبيًا %0.6 في نهاية 2022، ومعدلًا سلبيًا %0.8 في نهاية 2023، قبل أن يعود ليسجّل انكماشًا كبيرًا بنسبة 6.4% في نهاية عام 2024 بسبب الحرب الإسرائيلية.
التعلّق بقشّة تحويلات المغتربين
شكّلت تحويلات المغتربين إلى الأسر اللبنانية خلال الأزمة شريان الحياة الوحيد تقريبًا، حيث مثلت المصدر الأساسي للدخل لمعظم العائلات اللبنانية مما حال دون انهيار تام للاستهلاك المحلي. فقد سجلت التحويلات بحسب تقارير مصرف لبنان السنوية 5.9 مليارات دولار لغاية أيلول/سبتمبر 2019، و6.3 مليار دولار في نهاية 2020. ثم 6.1 مليار دولار في نهاية 2021، و6.4 مليار دولار في نهاية 2022، و6.6 مليار دولار في نهاية 2023، و6.8 مليار دولار في نهاية 2024. رغم أنها كانت قد سجّلت قبل عام من الانهيار نحو 7 مليار دولار، في نهاية عام 2018، إلا أن انخفاضها يعزى إلى أزمة كوفيد-19. وعلى الرغم من تباطؤ النمو الاقتصادي حول العالم، وتراجع التحويلات المالية من العمال المهاجرين إلى البلدان النامية بشكل عام، فقد استمرت تحويلات المغتربين إلى لبنان بالارتفاع منذ العام 2019.
بناءً على هذه البيانات والمؤشرات، يتبيّن أن الأزمة البنيوية التي كشفت عنها الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 لا تزال مستمرة دون حلول جذرية. فغياب الإصلاحات الهيكلية في النظامين النقدي والسياسي يعني أن لبنان لم يخرج بعد من دوامة الانهيار، بل يعيد إنتاج تلك الدوامة بأشكال جديدة.
