في خطوة توصف بأنها من أكثر التحركات جرأة في ملف الإصلاح المالي السوري، أعلنت وزارة المالية عن إنجاز مشروع قانون جديد للضريبة على المبيعات، ليحل محل ضريبة الإنفاق الاستهلاكي التي رافقت الاقتصاد السوري لأكثر من ثلاثة عقود ونصف.
المشروع، وفق ما أعلنه وزير المالية محمد يسر برنية، لا يقتصر على تعديل نسب الجباية، بل يسعى لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمكلّفين على أسس أكثر عدالة وشفافية، وتهيئة الأرضية لاعتماد ضريبة القيمة المضافة لاحقاً، بما ينسجم مع التجارب الدولية الحديثة.
قانون 5 في المئة فقط: بين العدالة والإيرادات
القانون الجديد يحدد ضريبة عامة على المبيعات بنسبة 5 في المئة فقط، مع إعفاء كامل للسلع الغذائية والأساسية لحماية القدرة الشرائية للمواطنين.
في المقابل، يُخصّص نحو ربع حصيلة الضريبة لصندوق خاص لدعم الصناعة والصادرات، في محاولة لربط السياسة الضريبية بالتنمية الإنتاجية ودعم عجلة الاقتصاد الوطني.
وعليه، يسعى المشروع بهذه الصيغة، إلى تحقيق معادلة دقيقة: الحفاظ على موارد الخزينة من جهة، وتخفيف العبء عن السوق والمستهلكين من جهة أخرى.
قراءة في الأرقام
تشير البيانات الرسمية إلى أن ضريبة الإنفاق الاستهلاكي المطبقة منذ 35 عاماً كانت تشكّل المصدر الأهم للإيرادات غير المباشرة للدولة. ومع أن القانون الجديد يخفض النسبة إلى 5 في المئة فقط، إلا أنه يعوّل على توسيع القاعدة الضريبية وتبسيط الإجراءات لرفع الكفاءة في الجباية.
مقارنةً بالمنطقة، تعتبر النسبة السورية الأدنى على الإطلاق: إذ تبلغ في المغرب 20 في المئة، وفي الجزائر وتونس 19 في المئة، وفي مصر والسودان 17 في المئة، والأردن 16 في المئة، والسعودية 15 في المئة، ولبنان 11 في المئة. أما أوروبا فتتجاوز في معظم دولها 24 في المئة.
بهذا، تدخل سوريا التجربة الجديدة بأقل نسبة ممكنة، في محاولة واضحة لتحقيق توازن دقيق بين الإيرادات والعدالة الاجتماعية.
من الاقتصاد المغلق إلى الإصلاح التدريجي
يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، أن السياسات المالية المتبعة في سوريا خلال العقود الماضية كانت تشبه نموذج الاقتصاد المغلق، الذي ارتكز على دعم الأسعار والسلع الأساسية دون رؤية تنموية متكاملة.
ويقول في حديثه لـ"المدن"، إن "هذا النمط عزّز احتكاراً غير تنافسي، وأضعف النمو الاقتصادي والمعيشي، ما يجعل التحول نحو اقتصاد السوق الحر أمراً ضرورياً، شريطة أن ترافقه إصلاحات مالية وضريبية مدروسة، إلى جانب دعم الصناعات الوطنية عبر أدوات ضريبية محفزة تبسط الإجراءات وتوسع القاعدة الضريبية دون الإضرار بالفئات الهشة".
ويضيف قوشجي أن "إعفاء السلع الغذائية خطوة مهمة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الأمن الغذائي، لكنها لا تكفي ما لم تُحدّد بوضوح آلية تطبيق الضريبة ونطاقها على المنتجات المحلية والمستوردة معاً، لأن غياب الدقة يخلق تشوّهات في السوق".
قوشجي يعتبر أن الحديث عن صندوق دعم الصادرات "سابق لأوانه"، لأن أغلب الصناعات السورية تعتمد على مدخلات إنتاج مستوردة، ما يجعل دعم الصادرات عبئاً إضافياً على السوق الداخلي. ويدعو إلى اعتماد رؤية استراتيجية شاملة للنظام الضريبي تميّز المنتجات المحلية بحوافز واقعية وتربط الجباية بخطط التنمية المستدامة.
جدل حول تخصيص ربع الضريبة للصناعة
في المقابل، يثير تخصيص 25 في المئة من حصيلة ضريبة المبيعات لدعم الصناعة جدلاً واسعاً بين خبراء المالية العامة.
فبينما تعتبر الحكومة أن الخطوة تشكّل دعماً مباشراً للقطاع الإنتاجي، يرى اقتصاديون أنها تتناقض مع مبادئ المالية العامة التي تنص على توجيه جميع الإيرادات إلى خزينة الدولة، ليُعاد توزيعها عبر الموازنة العامة التي يقرّها مجلس الشعب.
ويحذر هؤلاء من أن "ربط ضريبة معينة بإنفاق محدد يقيّد السياسة المالية ويشوّه العدالة بين القطاعات المختلفة".
ويشيرون إلى أن دعم الصناعة لا يتحقق بقرارات مالية معزولة، بل بسياسات متكاملة تشمل الطاقة، والتمويل، والبيئة التصديرية.
التأثيرات المتوقعة: بين الأمل والحذر
يُنتظر أن يحقق المشروع أثراً مزدوجاً يتمثل بـ: زيادة موارد الدولة مع حماية القدرة الشرائية.
فإعفاء السلع الأساسية مثل الخبز والأرز والزيت يعني أن أسعارها لن تتأثر مباشرة بالضريبة الجديدة، في حين ستُفرض الضريبة بنسبة 5 في المئة على السلع الكمالية كالإلكترونيات والمشروبات الغازية، وهو ما يعزز مبدأ العدالة بين الضروريات والكماليات.
أما تخصيص جزء من الإيرادات لدعم الصناعة، فقد يسهم نظرياً في زيادة الإنتاج المحلي وتحسين تنافسية الصادرات السورية، لكن خبراء الاقتصاد يشددون على أن النجاح مرهون بآلية التنفيذ والرقابة، إذ أن غياب الشفافية قد يحوّل القانون إلى مجرد شعار لا أثر فعلي له.
التحدي الأكبر: التطبيق
يؤكد الاستشاري الضريبي محمد بغدادي في حديثه لـ"المدن"، أن نجاح مشروع تطبيق قانون الضريبة على المبيعات الجديد “مرهون ببيئة اقتصادية وإدارية قادرة على تطبيقه بعدالة”.
ويقول بغدادي: إن "تخصيص نسبة من الضريبة لقطاع محدد كـالصناعة، يتعارض مع قواعد المالية العامة، لأن الإيرادات يجب أن تدخل إلى الخزينة العامة ثم تُوزّع عبر الموازنة بما يضمن العدالة بين القطاعات".
ويحذّر بغدادي من أن "الوعود بدعم قطاع معين عبر الضريبة قد تخلق أوهاماً لدى الصناعيين والجمهور، ما لم ترافقها إجراءات شفافة وواضحة".
ويقترح أن تبدأ الوزارة بنشر المعلومات والإرشادات الضريبية، وتبسيط الإجراءات الإلكترونية، وتوحيد معايير التدقيق، وضمان إشعارات مفصّلة للمكلفين، إلى جانب إنشاء لجان اعتراض مستقلة، مع مراعاة القدرة المالية للمكلفين محدودي الدخل، وتطبيق فترات سماح للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
كذلك يشدد الاستشاري الضريبي، على ضرورة دمج الاقتصاد غير الرسمي في المنظومة الضريبية، وتقديم سياسات دعم حقيقية للطاقة والإنتاج والتصدير، بدل الاعتماد على وعود مرتبطة بإيرادات متقلبة.
بين الطموح والمساءلة
يبدو مشروع قانون الضريبة على المبيعات خطوة نوعية في مسار تحديث النظام الضريبي السوري، لكنه ليس الحل النهائي، فنجاحه سيتوقف على قدرة الحكومة في تحويله من نص قانوني إلى أداة إصلاح حقيقي، عبر التطبيق العادل، ومكافحة التهرب، وتكريس الشفافية في إدارة الإيرادات.
في النهاية، لا تكمن أهمية هذا القانون في أرقامه ونِسَبه، بل في قدرته على بناء ثقة جديدة بين الدولة والمواطنين، فالمكلف الذي يدفع ينتظر خدمات أفضل، والصناعي يريد بيئة منافسة عادلة، والمجتمع يطالب بمساءلة حقيقية ونتائج ملموسة.
وهنا فقط يمكن القول إن الضريبة تحولت من عبء إلى شراكة، ومن جباية إلى تنمية.
