منذ عقودٍ وطرابلس تغفو على وعودٍ حكوميةٍ أغرقتها في سُباتٍ طويل. وُضعت مشاريع كبرى، لكنّها بقيت حبيسة الأدراج، في حين كان أبناؤها يشهدون انحداراً اقتصادياً واجتماعياً متواصلاً: بطالة تجاوزت 70 في المئة في بعض أحيائها، وهجرة شبابية متزايدة، وبُنىً تحتية تنهار يوماً بعد يوم.
أما اليوم، ومع ولادة الحكومة الجديدة، تبدو المدينة ومعها الشمال على موعد مع صحوة مختلفة؛ إذ بدأت الوعود تتجسّد بخطوات تنفيذية ملموسة، تعيد شيئاً من الأمل بإحياء دور طرابلس وموقعها في قلب الخريطة الوطنية، إذا ما كتب لهذه الانطلاقة أن تستمرّ.
مرفأ طرابلس
كانت النظرة السّائدة إلى مرفأ طرابلس أنّه مرفأ "تابع" لمرفأ بيروت، يستقبل الفائض من البضائع المتوجهة إلى لبنان. إلا أنَّ الأحداث الأخيرة، وفي مقدمها ما أصاب مرفأ بيروت من دمار في آب 2020، جعلت الأنظار تتّجه إلى تطوير مرفأ طرابلس الذي يتمتع بميزة استراتيجية: أعماقه الطبيعية تسمح باستقبال السفن العملاقة من دون تكاليف حفر باهظة، ومساحاته المحيطة قابلة للتوسع.
المشاريع التي تقودها الإدارة الحالية للمرفأ، بدعم من حكومة سلام، تشمل توسيع الأرصفة وبناء مستودعات حديثة وتعزيز الخدمات اللوجستية بالتعاون مع شركات عالمية مثل CMA ،CGM. هذا التوجه إذا ما تمّ سيجعل من مرفأ طرابلس ندّاً أو منافساً لمرافئ إقليمية مثل مرسين وبورسعيد، ويحوّل الشمال إلى عقدة تجارية بين أوروبا والخليج، وقد يلعب قريباً دوراً لوجستياً في إعادة إعمار سوريا.
مطار القليعات… حلم شمالي معلّق بأوّل إقلاع
تضع حكومة سلام مشروع مطار الرئيس رينيه معوض في القليعات على نارٍ حامية. فالمطار الذي يمتد على مساحة تقارب خمسة ملايين متر مربع، يعد من أكبر المشاريع غير المستثمرة في لبنان. وقد طُرحت في التسعينيات فكرة تشغيله ليكون مطاراً مكملاً لمطار رفيق الحريري، ولا سيما مع ازدياد حركة الركاب والبضائع التي تجاوزت قدرة مطار العاصمة، إلّا أنّ الاعتبارات السياسية والمخاوف من تحويل ثقل الحركة الاقتصادية إلى الشمال، أوقفت تنفيذ المشروع لسنوات طويلة.
اليوم، ومع انتقال الملف إلى الهيئة الناظمة للطيران المدني، بدأ المسار يأخذ شكلاً عمليًا وجديًا. المرحلة الأولى من التشغيل ستتركز على الرحلات الداخلية بين طرابلس وبيروت، وهو ما يتيح اختبار البنية التحتية وتجهيز العمليات التشغيلية، قبل التوسع لاحقًا إلى الرحلات الإقليمية والدولية.
وخلال زيارته الأخيرة إلى المطار، أكّد وزير الأشغال فايز رسامني على أنه "ومنذ بداية العهد هناك إصرار لدى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على تشغيل هذا المطار وتفعيله، نظراً لأهميته للشمال وللبنان ككل".
أهمية المطار لا تقتصر على الشمال: فهو ليس مجرد منفذ جوي إضافي؛ بل عنصر أساسي في تخفيف الضغط عن مطار بيروت، وربط لبنان بالأسواق التركية والسورية والعراقية والخليجية، مما يفتح الباب أمام نشاط اقتصادي وتجاري وسياحي واسع النطاق. لكن يبقى التحدّي قائماً في أن يكون المطار قادراً على إطلاق رحلات دولية قد تكون موضع شروط سوريّة.
معرض رشيد كرامي… من الإهمال إلى جدول الأعمال
حين وضع المعماري العالمي أوسكار نيماير تصميم معرض رشيد كرامي في الستينيات، كان الهدف أن تكون طرابلس منصة دولية للمعارض على غرار باريس وبروكسل. لكن اندلاع الحرب الأهلية جمّد المشروع، ومنذ ذلك الحين تحوّل الصرح المعماري إلى مبانٍ خاوية تمثّل عنواناً للفشل الحكومي الذريع على مدى عقود في استثمار ما أقيم عليه، وما يمكن أن يدرّه من كنوز. اليوم، مع تعيين مجلس إدارة جديد، يُطرح المشروع ليكون مدينة اقتصادية وثقافية متكاملة: استضافة مؤتمرات، معارض صناعية، مهرجانات فنية، وحتى مشاريع جامعية وبحثية.
وقد أكد رئيس مجلس إدارة المعرض الدكتور هاني الشعراني في حديثهِ لـِ"المدن" أنّ الحكومة أبدت دعماً واضحاً منذ اليوم الأول لتعيين المجلس؛ إذ عبّر الرئيس نواف سلام ووزير الاقتصاد عن دعمهما المطلق للمشروع، لكنهما ينتظران في المقابل أن يقدّم المجلس باكورة مشاريع قائمة على دراسات علمية محددة. وأوضح الشعراني أنّ "الأجواء إيجابية جداً، فالدولة بانتظار تقديم المشاريع كي تتمكّن من دعمها. نحن حالياً نعمل على ثلاثة ملفات أساسية: ملف الترميم، وملف تفعيل الأصول الموجودة داخل المعرض وفي طليعتها مشروع الفندق بالشراكة مع القطاع الخاص، ثم ملف وضع المعرض على خريطة المعارض العربية والدولية، وأضاف "نحن نعتبر أن المعرض في حالة تكامل مع بقية المرافق الاقتصادية في الشمال، بحيث يشكّل معها قوة اقتصادية دافعة تعود بالنفع على محافظة الشمال بأكملها."
هل يكتمل مشهد هذا الحضور بالتتويج؟
حين نضع هذه المشاريع مجتمعةً: المرفأ، المطار والمعرض، ندرك أننا أمام رؤية متكاملة تعيد رسم صورة طرابلس عاصمةً اقتصادية ثانية للبنان.
ففي الوقت الذي ظلّت فيه الحكومات السابقة تجترّ الشعارات، التي لا تلبث أن تسقط في متاهات البيروقراطية والإنماء غير المتوازن أو الكيديّة السياسيّة، جاءت حكومة سلام لتضع الأمور في نصابها، مستندةً إلى دعم سياسي داخلي وإقليمي ورغبة دولية واضحة بالاستثمار في شمال لبنان.
طرابلس التي كانت توصف بالمدينة المنسية إلّا من التُّهم الجاهزة التي لا تمت إلى واقعها وتاريخها بصِلة، تبدو اليوم على طريق جديد، طريق يستند إلى مواردها الطبيعية وطاقاتها البشريّة الفذّة ومرافقها الحيوية المميّزة. ومع التوجه الجاد من الحكومة الحالية، تطرح تساؤلات مشروعة: هل تنجح طرابلس أخيراً في كسر دائرة التهميش، واعتلاء منصّة التتويج بوصفها عاصمةً اقتصادية اجتماعية ثقافية رائدة للشمال؟
