في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة وارتفاع تكاليف المعيشة، يبحث العديد من السوريين عن طرق سريعة لتحسين دخلهم عبر الإنترنت، إذ أصبح التداول الرقمي هدفًا جذابًا، سواء عبر منصات استثمارية أو منصات خيارات ثنائية، كما يشير رصد حديث إلى أن آلاف المواطنين يسألون يوميًا عن منصات تعمل، ويتعلمون أساسيات التداول، أملاً في تأمين دخل إضافي.
منصات تحمل أسماء جذابة مثل Dobibo وVictory Exchange توهم المستخدمين بأنها تقدم خدمات موثوق فيها وعوائد يومية مرتفعة، لكن الواقع غالبًا يكون مختلفًا تمامًا. آلاف الأسر وجدت نفسها ضحية وعود وهمية لم تتحقق على أرض الواقع، حيث توقفت عمليات السحب فجأة وذابت المدخرات أمام أعين أصحابها. هذه التجربة تكشف هشاشة وعي المستخدم المالي والرقمي، وتسلط الضوء على المخاطر الحقيقية التي تواجه السوريين في سوق رقمي غير منظم، بينما يظل الأمل بالربح السريع وهمًا مكلفًا يهدد الأموال والأمان النفسي معًا.
اتساع الخسائر يكشف شبكة للمنصات
أظهرت حادثة Dobibo أن هناك العديد من المنصات الرقمية التي تحمل أسماء استثمارية أو تداولية، لكنها في الجوهر تهدف إلى استنزاف أموال المستخدمين، فيما أشارت تقديرات غير رسمية إلى أن مجموع الخسائر بين السوريين قد يصل إلى ملايين الدولارات، بينما يستمر القائمون على هذه المنصات في إطلاق نسخ جديدة لجذب ضحايا جدد بنفس أسلوب الاحتيال.
ويشير عدد كبير من المتعاملين مع منصات التداول الرقمية إلى أنهم فقدوا أموالهم بالكامل، إذ توقفت منصات مثل Dobibo فجأة عن التداول ومنع السحب، وظهرت لاحقًا منصة جديدة باسم Victory Exchange تتبع نفس أسلوب الاحتيال القديم.
وفي تعليقات لهم على فيسبوك، يعبر العديد من المواطنين عن شعورهم بالخذلان والغضب، مؤكدين أنهم لم يسعوا إلا لتحسين وضعهم المعيشي، لكنهم وجدوا أنفسهم ضحايا وعود وهمية لم تترجم إلى واقع، ويضيف آخرون أن الظروف الاقتصادية الصعبة، مثل فقدان الوظائف وارتفاع تكاليف المعيشة، دفعتهم إلى المجازفة بأموالهم، سواء عن طريق الاستدانة أو بيع ممتلكات بسيطة، على أمل تحقيق دخل إضافي، لتتبدد كل آمالهم في لحظة.
وبينما يحذر الكثيرون من منصات التداول الرقمية، يطالب بعض المتضررين الحكومة والجهات الرسمية باتخاذ إجراءات قانونية على المستوى الدولي، ومطالبة منصات التواصل مثل تيليغرام بتقديم المعلومات اللازمة لملاحقة المسؤولين عن الاحتيال وتقديمهم للعدالة.
أثر انتشار المنصات الوهمية
بحسب خبراء، فإن المجتمعات التي تعيش فترة ما بعد الحرب تصبح أرضًا خصبة لانتشار منصات التداول الوهمية، الصدمات الاقتصادية المستمرة، مثل فقدان الوظائف، ارتفاع تكاليف المعيشة، وتدمير البنية التحتية، تجعل الأفراد أكثر عرضة لتصديق وعود الربح السريع، حتى لو كانت غير منطقية.
في حين، يزيد ضعف الثقافة المالية والرقمية من قابلية الناس للوقوع في الفخ، خاصة عندما تقدم المنصات واجهة تقنية جذابة ومصطلحات مالية معقدة توحي بالاحترافية.
تستفيد هذه المنصات من حاجة المواطنين إلى الأمل، فتخلق شعورًا مؤقتًا بالسيطرة على الوضع المالي، بينما الواقع أن الأموال تُستنزف تدريجيًا. كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا في انتشارها، إذ يشاهد الناس أرباح الآخرين الظاهرية ويشعرون بضغط الانضمام والمشاركة، ما يعزز تأثير العدوى الاجتماعية.
في هذا السياق، يصبح الأسلوب الهرمي الذي تعتمد عليه المنصات أداة مزدوجة: يخسر الحساب الصغير لتمويل أرباح وهمية للحسابات الأكبر، ويستمر الناس بالمشاركة وترويج المنصة دون وعي بالاحتيال، مما يجعل الفخ الرقمي أكثر انتشارًا في المجتمعات المتأثرة بالصراعات.
كيف تعمل المنصات؟
قدّمت منصة Dobibo عقودًا مدعومة بالدولار (USD-margined) والعملات الرقمية (coin-margined). في منتصف عام 2025، أعلنت عن حصولها على ترخيص MSB (Money Services Business) في الولايات المتحدة، ما يضعها ظاهريًا في مسار الالتزام التنظيمي.
كذلك، سوّقت المنصة نفسها على أنها “بدون ضجيج، تركيزها على التنظيم” وليس على الدعاية الإعلامية، ومع ذلك، أشارت تحذيرات من جهات رقابية ومراجعات المستخدمين إلى أن المنصة قد تكون غير موثوقة، حيث يواجه المستثمرون صعوبة في استرداد أموالهم بعد الإيداع، وتصنف بعض المصادر مثل BrokerChooser المنصة على أنها غير آمنة وغير مرخصة من أي جهة تنظيمية مرموقة.
استهداف الحسابات الصغيرة وبيع الأوهام
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي عامر ديب لـ "المدن"، "إن ظاهرة المنصات الوهمية انتشرت بعد سقوط النظام، حيث تدّعي تقديم خدمات التداول والاستثمار عبر الإنترنت"، ويشير إلى أن قضية منصة Dobibo كشفت للرأي العام حجم الخداع الذي تمارسه هذه الشركات تحت غطاء التداول.
ويؤكد ديب أن غياب الرقابة وضعف الوعي المالي جعل هذه الظاهرة أشبه بـ "لعبة طرابيش"، هدفها الأساسي امتصاص ما تبقى من مدخرات الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
كذلك، يوضح ديب أن هذه الشركات تعتمد بشكل أساسي على استهداف الحسابات الصغيرة، التي تتراوح بين 50 و500 دولار، وتتعرض هذه المبالغ للتلاعب بحيث تتجاوز نسبة الخسارة 90%، خصوصًا في تداول المعادن والأسهم عالية المخاطرة. ويضيف أن الهدف ليس تحقيق ربح للعميل، بل تعزيز السيولة الداخلية للشركة لتمويل أرباح الحسابات المتوسطة، ويشير أيضاً إلى أن العملية تُدار على طريقة "الهرم المالي"، حيث تخسر الطبقة الأضعف لتُموَّل أرباح الطبقة الأعلى.
ويؤكد الخبير أن البوانص أو المكافآت التي تقدمها هذه الشركات لا قيمة لها، فهي مجرد طُعم لإغراء العملاء بضخ المزيد من الأموال على أمل مضاعفتها، بينما الطريق مرسوم للخسارة مسبقًا. وهنا، يشير ديب إلى أن الواقع الاقتصادي الصعب في سورية يجعل حلم الربح السريع يبدو كخلاص وهمي، حيث يتحول الأمل في تحقيق دخل إضافي عبر التداول الافتراضي إلى كابوس مالي حقيقي.
في السياق، يضيف ديب أن المسؤولية لا تقع فقط على هذه الشركات، بل تشمل أيضًا المؤسسات الرسمية مثل سوق دمشق للأوراق المالية ومصرف سورية المركزي، إذ سمح غياب الرقابة لهذه الشركات بالعمل بحرية وإدخال المواطنين في دوامة نصب منظمة.
أما عن الحل، فيكمن وفقاً لـ ديب، برفع مستوى الوعي المالي لدى المواطنين، والتوجه نحو أسواق مالية حقيقية تخضع لرقابة قانونية ودولية، مشيرًا إلى أن أي منصة تعمل بلا غطاء قانوني أو دولي هي مجرد واجهة لسلب الأموال، وأن 90% من الشركات الوهمية في سورية تستغل الوضع المعيشي وتوظف أشخاصًا بلا مبادئ لتنفيذ عمليات النصب.
المنع الرسمي والتحذيرات
في الجانب الرسمي، أعلن مصرف سورية المركزي عن إنشاء مديرية متخصصة لحماية المستهلك في الخدمات المالية، بهدف ترسيخ مبادئ العدالة والمساءلة في تعامل المؤسسات المالية مع عملائها.
وتتمحور مهام المديرية حول وضع أطر تنظيمية لحماية حقوق المستهلك المالي، استقبال الشكاوى ومعالجتها بشفافية، مراقبة التزام المؤسسات المالية بالمعايير المهنية، وتنفيذ برامج توعية مالية للجمهور، كما يعمل المصرف على إعداد مشروع قانون لحماية المستهلك بما يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية لتعزيز الاستقرار المالي والثقة بالقطاع المالي.
بالإضافة إلى ذلك، أصدر المصرف بتاريخ 19 أغسطس 2025 بياناً يحذر فيه من مخاطر التعامل بالعملات الرقمية غير المرخصة، مؤكدًا أنها لا تمثل عملة قانونية وأن التداول غير الرسمي عبر منصات إلكترونية غير موثوقة يعرض المستخدمين للاحتيال ويجعل استرداد الأموال شبه مستحيل.
وعلى نفس الخط، أصدرت هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية تحذيراً رسمياً في وقت سابق، من التعامل مع أي منصات تداول أو استثمار غير مرخصة، مؤكدة أن هذه الأنشطة خارج الإطار القانوني وقد تؤدي إلى فقدان الأموال بالكامل، كما قد تترتب على المتعاملين معها مساءلة قانونية.
اللجوء إلى منصات التداول
تشير التعليقات والملاحظات أثناء البحث إلى أن بعض المنصات الرقمية مثل Mexi وBinance وBank X وغيرها لا تزال تعمل في سوريا، ويشارك فيها عدد كبير من الأشخاص الباحثين عن مصدر دخل إضافي، ويوضح خبراء أن هذا اللجوء المتزايد مرتبط بغياب فرص العمل التقليدية والضغوط الاقتصادية الكبيرة، ما يدفع الناس لاستكشاف التداول الرقمي كخيار جديد رغم مخاطره.
مع الإشارة إلى أن هذه الظاهرة تُظهر ارتفاع الاهتمام بالتعلم الرقمي والتجريبي، حيث يحاول الكثير من السوريين اكتساب مهارات في الاستثمار والتداول عبر الإنترنت، لكنهم غالبًا يفتقرون إلى التوجيه المالي الكافي، مما يعرضهم لاحتمال الوقوع في فخاخ المنصات غير الموثوقة.
كيف تتحقق قبل الإيداع؟
تختصر "المدن" للقراء بعض الخطوات التي يمكن أن يتبعها المستخدمين عند التعامل مع أي منصة رقمية، عبر التحقق من الترخيص الرسمي للمنصة عبر الجهات الرقابية المحلية، والبحث عن معلومات قانونية واضحة مثل عنوان، هاتف، وبيانات مالك، بالمقابل، الابتعاد عن أي منصة تقدم عوائد يومية غير منطقية أو مكافآت مالية كبيرة لجلب مشتركين جدد، كما يمكن فحص دومين الموقع باستخدام أدوات WHOIS والتحقق من شهادة SSL للتأكد من مصداقية الموقع، إضافة لقراءة مراجعات المستخدمين والتحقق من تقويمات السمعة على مواقع مستقلة تساعد أيضاً على تقويم المخاطر قبل الإيداع.
