الأحد 2023/03/26

آخر تحديث: 15:02 (بيروت)

لبنان و"القائمة الرماديّة": الانعزال المالي آتٍ!

الأحد 2023/03/26
لبنان و"القائمة الرماديّة": الانعزال المالي آتٍ!
إدراج لبنان على اللائحة الرمادية يعني دخول البلاد في ورطة كبيرة (مصطىفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

لم يكن تفصيلًا عابرًا، ولا مسألة بسيطة يمكن تجاوزها، أن يتطرّق البيان الختامي لبعثة صندوق النقد إلى أحد التحوّلات التي تحصل بالتوازي مع استطالة الأزمة الماليّة في لبنان: توسّع نطاق الاقتصاد غير المنظّم، وتسارع الانتقال نحو الدولرة النقديّة، وما ينتج عن ذلك من ارتفاع في مخاطر العمليّات غير الشرعيّة (راجع المدن).

قراءة الجمل الثلاث، تحيل القارئ سريعًا إلى فكرة واحدة تُترجم ما قيل هنا: مخاطر تبييض الأموال ترتفع في لبنان، والعزلة الماليّة قد تكون ثمن هذه المخاطر.

التشديد على هذه الفكرة بالتحديد في بيان البعثة، وفي هذا التوقيت بالذات، له أسبابه المفهومة جدًا. فصدور تقرير "مجموعة العمل المالي" بات منتظرًا خلال الأسابيع القليل المقبلة، بعدما قامت بعثة المجموعة بزيارتها التقييميّة إلى بيروت في شهر تمّوز الماضي (راجع المدن).

ومن المعلوم أن المجموعة تختص بتقييم امتثال الدول لإجراءات ومعايير مكافحة تبييض الأموال، فيما يجري تصنيف الدول غير الممتثلة ضمن لائحة رماديّة، لإخضاعها إلى الرقابة المشددة، أو لائحة سوداء تفرض إخضاعها لتدابير مضادّة وصارمة.

لبنان إلى القائمة الرماديّة: عوامل الخطر
وفقًا لجميع المصادر المتابعة لعمل المجموعة، بات السيناريو المرجّح اليوم هو إحالة لبنان إلى القائمة الرماديّة، تمامًا كما كان حاله بين عامي 2000 و2003، مع إمكانيّة تخفيض تصنيفه لاحقًا إلى القائمة السوداء، في ضوء المتابعة المشددة التي ستُفرض على لبنان. مع الإشارة إلى أنّ القائمة السوداء تقتصر اليوم على إيران وكوريا الشماليّة وميانمار، فيما تشمل القائمة الرماديّة 23 بلدًا من بينها سوريا واليمن وجنوب السودان وبنما والكونغو وغيرها...

أسباب التصنيف المتوقّع بالنسبة للبنان تتلخّص في توسّع نطاق الاقتصاد غير الشرعي، وارتفاع معدلات تدوال النقد الورقي المدولر، والتشوّهات التي ضربت معايير مراقبة تبييض الأموال في المصارف اللبنانيّة، وخصوصًا بعدما تحوّلت المصارف إلى وسيط يكتفي بتلقي وإرسال التحويلات بعد القيام بعمليّات السحب والإيداع النقدي.

بمعنى آخر، باتت المصارف اللبنانيّة جنّة لأي عمليّة تبييض أموال، ترغب بإخفاء مصدر أي أموال نقديّة، طالما أن الإيداع أو السحب النقدي بعد تلقي الحوالات أو قبل إرسالها فورًا بات مسألة طبيعيّة وجزءًا من قواعد العمل. مع الإشارة إلى أنّ هذا النوع من العمليّات كان يُعد أحد "علامات خطر تبييض الأموال" في أي مصرف لبناني، قبل حصول الأزمة.

في الوقت نفسه، من المرتقب أن يشير التقرير المنتظر إلى ظهور أسواق كبيرة غير شرعيّة للتداول بالدولار والمضاربة، وهو ما يقلّص قدرة السلطات النقديّة على ضبط حركة السيولة بالعملة الصعبة. كما تشعر مجموعة العمل المالي بالقلق إزاء توسّع عمل المؤسسات الماليّة غير المصرفيّة وغير المرخّصة، والتي لا تخضع لمعايير مكافحة تبييض الأموال، كحالة "القرض الحسن" مثلًا. مع الإشارة إلى أنّ هذه المؤسسة بالتحديد لم تصل بعد إلى حد خلق وسائل دفع تحل مكان النظام المصرفي التقليدي، إلا أنّ توسّع عملها كبديل عن المصارف التقليديّة يمهّد لخروج الأنظمة الماليّة المحليّة عن نطاق الرقابة الشرعيّة بشكل تام.

أخيرًا، تلقّفت مجموعة العمل المالي تزايد الشبهات القضائيّة والجنائيّة التي تحيط بعمل المصارف المحليّة، كما لاحظت طريقة تعامل هيئة التحقيق الخاصّة مع هذه الملفّات الحسّاسة والخطرة.

فمن الناحية العمليّة، كان من المفترض أن تكون الهيئة هي الجهة الناظمة المخوّلة بمتابعة ملفّات تبييض الأموال ومعالجتها، كما امتلكت الهيئة صلاحيّة التنسيق مع القضاء لرفع السريّة المصرفيّة عن الحسابات التي يُشتبه بقيامها بعمليّات تبييض أموال. إلا أنّ الهيئة بدت غائبة كليًا عن المشهد، وخصوصًا خلال التجاذبات بين القضاء والقطاع المصرفي، وفي العديد من الملفّات التي تُعنى بحاكم مصرف لبنان وتهريب الأموال وغيرها. أمّا المصارف، فباتت محاطة –أكثر من أي وقت مضى- بعلامات الاستفهام بعد فتح هذه الملفّات القضائيّة، التي تمّت عرقلتها بسلاح السريّة المصرفيّة بالتحديد.

دخول الحمّام ليس مثل خروجه
النتيجة الأولى المتوقّعة بمجرّد إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، هي تزايد العزلة الماليّة عن النظام المالي العالمي. فالمصارف المراسلة في الخارج تلتزم بمعايير مشددة عند التعامل مع الدول المدرجة على القائمة الرماديّة، ما سيفرض المزيد من القيود على أي تداولات ماليّة بين لبنان والخارج. وعلى هذا الأساس، سيكون من المتوقّع حصر التحويلات مع الخارج بحالات وأهداف محددة جدًا، وتقليص صلات المصارف اللبنانيّة مع المصارف المراسلة، وتفادي المصارف المراسلة فتح أي حسابات جديدة للمصارف اللبنانيّة.

الأهم هنا، هو أنّ دخول الحمّام ليس كمثل خروجه، كما يقول المثال الشعبي. بمعنى آخر، لن يكون الخروج من القائمة الرماديّة سهلًا، كدخول لبنان إليها. فالخروج من اللائحة الرماديّة –وللبنان تجربة في هذا الأمر- سيتطلّب وضع برامج ومعايير جديدة بالتنسيق مع مجموعة العمل المالي، كما سيتطلّب تنفيذ هذه البرامج إقرار تشريعات ومراسيم وتعاميم جديدة من جانب المصرف لبنان.

وفي العادة، يحتاج تنفيذ هذه البرامج لسنوات من الأخذ والرد مع فرق عمل المجموعة، تمامًا كما فعل لبنان بين عامي 2000 و2003. باختصار، سيكون دخول اللائحة الرماديّة عنوانًا لمرحلة طويلة وشائكة، لا مجرّد حدث يمكن عكس مفاعيله ببضعة إجراءات بسيطة. ومن تجربة لبنان مع شروط صندوق النقد، قد لا يسمح الوضع الداخلي وغياب القيادة السياسيّة بتنفيذ هذا النوع من البرامج.

أمّا الأكثر أهميّة وحساسيّة، فهو أثر هذه التطوّرات على علاقة لبنان مع المؤسّسات الدوليّة، وخصوصًا صندوق النقد الدولي، الذي يراهن لبنان على برنامجه لدخول مسار التعافي المالي. في تجربة سابقة مع المغرب، وبعد دخولها القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، تم تعليق برامج التمويل التي راهنت المغرب على الحصول عليها من الصندوق. وعلى مدى السنوات الماضية، عملت المغرب على مجموعة من الخطط بالتنسيق مع مجموعة العمل المالي، إلى أن تمكنت خلال الشهر الماضي من الخروج من هذه اللائحة، ما أهلها مجددًا للدخول في برنامج تمويل مع الصندوق.

في خلاصة الأمر، وفي حال دخول لبنان اللائحة الرماديّة، من المرجّح أن تدخل البلاد في ورطة كبيرة على مستوى برنامج التمويل المطلوب من صندوق النقد، ومن المرتقب أن يصبح الخروج من هذه اللائحة أحد شروط الصندوق المقبلة. وهذا ما يفسّر ذكر المخاطر عن الناتجة عن تفشّي الدولرة النقديّة والاقتصاد غير الشرعي، في آخر بيانات الصندوق. أمّا السيناريو الأخطر، فهو أن يدخل لبنان اللائحة من دون أن يتمكن من الخروج منها، ما سيزيد سببًا آخر من أسباب الدخول في "الأزمة التي لن تنتهي"، حسب عبارات بيان الصندوق نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها