الثلاثاء 2023/03/21

آخر تحديث: 15:13 (بيروت)

صندوق النقد للبنانيين: انتظار التسويات الخارجيّة وهمٌ والآتي أسوأ

الثلاثاء 2023/03/21
صندوق النقد للبنانيين: انتظار التسويات الخارجيّة وهمٌ والآتي أسوأ
نتائج مدمِّرة للمجتمع والاقتصاد، يرافقها تفكّك كامل لمؤسّسات الدولة (Getty)
increase حجم الخط decrease

بدأت يوم أمس الإثنين جولة بعثة صندوق النقد الدولي في العاصمة بيروت، التي تشمل مروحة واسعة من النوّاب والمسؤولين ومنظّمات المجتمع المدني، وغيرهم من الأطراف المعنيّة بالوضعين المالي والاجتماعي. وفي النتيجة، من المفترض أن يلي كل هذه اللقاءات صدور تقرير "مشاورات المادّة الرابعة" للبنان، الذي يقيّم من خلاله الصندوق في العادة الأوضاع الماليّة والاقتصاديّة للبلدان الأعضاء فيه بشكل دوري. مع الإشارة إلى أنّ آخر تقرير من هذا النوع بالنسبة للبنان، كان قد صدر خلال العام 2019، ما يعطي المشاورات الراهنة أهميّة استثنائيّة، من ناحية عرض رؤية الصندوق للوضعين المالي والنقدي بشكل مفصّل.

أهم ما في الموضوع، هو أنّ بعثة الصندوق ستفتح للإعلام الاقتصادي المحلي باب طرح الأسئلة والنقاشات في مؤتمر صحافي خاص يوم الخميس المقبل، بغياب أي مشاركة أو ضوابط رسميّة لبنانيّة على مضمون اللقاء العلني. وهذه المناسبة ستسمح للبنانيين بالحصول على أجوبة رسميّة وصريحة (وعلنيّة هذه المرّة) من بعثة الصندوق، تجاه العديد من الملفّات الساخنة، بدل الاكتفاء بالتصريحات المقتضبة والمشتركة مع المسؤولين اللبنانيين، أو البيانات التي يطغى عليها في العادة الطابع الدبلوماسي الحذر، كما جرى بعد جولات بعثات الصندوق الأخيرة.

أجواء لقاءات بعثة الصندوق
تتسم اللقاءات الراهنة، وما سيليها من تقرير ومناقشات في المؤتمر الصحافي، بأهميّة استثنائيّة اليوم. إذ تأتي كل هذه التطوّرات قبيل مرور سنة كاملة على توقيع لبنان التفاهم على مستوى الموظّفين مع الصندوق، والذي نص على خريطة طريق وشروط واضحة جدًا، لجهة الإصلاحات التي يفترض أن يقوم بها لبنان قبل بلوغ مرحلة الاتفاق النهائي مع الصندوق، ودخول برنامج القرض معه. وبانتظار قراءة التقرير النهائي، وسماع مناقشات المؤتمر الصحافي، كان بالإمكان تلمّس رأي بعثة صندوق النقد من خلال اللقاءات التي جرى عقدها منذ يوم أمس.

الفكرة الأولى والأهم، هي أنّ لبنان سيحتاج بحلول شهر أيلول المقبل إلى العودة لمناقشة تفاهمه المعقود على مستوى الموظّفين مع لبنان، في حال –وهذا المتوقّع- استمرّت المراوحة في تنفيذ الإصلاحات المنصوص عليها في التفاهم المعقود العام الماضي. باختصار، لم تتغيّر فقط أرقام المصرف المركزي والمصارف التجاريّة، والتي تعكس حجم الخسائر الموجودة في الميزانيّات، بل تغيّرت أيضًا نوعيّة الكثير من التحديات التي تواجه لبنان. لم يكن هناك أي حديث صريح عن تاريخ "انتهاء صلاحيّة" (بمعنى الـExpiry Date)، لهذا التفاهم، لكنّ مجرّد الحديث عن العودة لمناقشة أسس التفاهم تعني –ولو بشكل غير مباشر- العودة إلى نقطة الصفر على هذا المستوى.

الفكرة الثانية من حيث الأهميّة، تكمن في أنّ لبنان لا يفترض أن ينتظر أو يراهن على أي تسويات سياسيّة خارجيّة لمعالجة الأزمة الاقتصاديّة الراهنة. باختصار، من غير المتوقّع أن تضخ أي دولة خارجيّة، بما فيها الدول العربيّة الثريّة، استثمارات أو قروض أو ودائع وازنة، ما لم يكن ذلك متناسقًا ومنسجمًا مع رزمة من الإصلاحات التي يفترض أن تقوم بها الدولة اللبنانيّة، والقادرة على ضمان استدامة المعالجات النقديّة والماليّة، وبالتالي ضمان مصير هذه القروض والاستثمارات. والمفتاح لهذا المسار، هو التفاهم مع صندوق النقد الدولي، الذي ينتظره المستثمرون والمقرضون المحتملون الخارجيون، بمن فيهم المعنيون بالتسويات الإقليميّة التي يراهن عليها اللبنانيون. المسألة واضحة إذًا: العلاج محلّي، ومرتبط بخطوات مطلوبة من لبنان، لا أكثر ولا أقل.

ولتأكيد هذه النقطة، يمكن العودة ببساطة إلى العديد من تجارب الدول العربيّة الأخرى، التي احتاجت لانتظار البت بمصير تفاهماتها مع صندوق النقد، لتسهيل حصولها على رزمات الدعم والاستثمارات الأخرى، بمعزل عن أي تحوّلات أو تحالفات سياسيّة. وفي واقع الأمر، تحتاج الكثير من الرساميل الأجنبيّة اليوم إلى البحث عن فرص استثماريّة في لبنان وخارج لبنان، إلا أنّها بحاجة أيضًا إلى البحث عن الضمانات التي يحققها التفاهم مع صندوق النقد الدولي.

الفكرة الثالثة من حيث الأهميّة، هي أن الصندوق يدرك محدوديّة حجم التمويل الذي سيتم منحه للبنان، والبالغ نحو ثلاثة مليارات دولارات فقط، وهو ما يقل كثيرًا عن التدفقات الماليّة التي اعتاد عليها لبنان، بما فيها تلك التي ترد سنويًّا من المغتربين في الخارج. لكن أهمّية برنامج الصندوق، لا تكمن في حجم التمويل المتواضع المُزمع تخصيصه لبنان، الذي سيتم منحه بالمناسبة على دفعات على مدّة تصل لحدود 46 شهرًا. بل تكمن أهميّة البرنامج في التأسيس لمسار من الثقة مع المستثمرين والمقرضين المحتملين الآخرين، والقادرين على ضخ أضعاف هذا المبلغ في شرايين الاقتصاد اللبناني. كما تكمن أهميّة البرنامج في الثقة التي يحتاجه لبنان اليوم، قبل مقاربة ملفّات أخرى كإعادة جدولة الديون أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

الدولة الفاشلة
خلال اللقاءات، تكرّر ذكر عبارة الدولة الفاشلة، في توصيف للوضع البديهي المتمثّل بعدم قدرة الدولة على تمويل أي نوع من شبكات الحماية الاجتماعيّة، وعجزها عن السيطرة على معدلات التضخّم وتدهور سعر الصرف، وعدم وجود أي معالجات جديّة على مستوى تعثّر القطاع المالي.

أمّا الأخطر، فهو ترقّب الصندوق لتداعيات أخطر بكثير في حال استمرار لبنان بالمراوحة خلال الأشهر المقبلة، وخصوصًا على مستوى الانتقال التدريجي إلى اقتصاد النقد الورقي بالكامل، وتعرّض القطاع المالي لمزيد من الخسائر التي ستقلّص هامش الحماية الممكن منحه للمودعين. وتذكّرت بعثة الصندوق جيّدًا كيف تقلّص تدريجيًا هامش الحماية الممكن منحه لكل وديعة اليوم، مقارنة بالعام 2020، وما تعرّض له المودعون من خسائر إضافيّة نتيجة هذه التحوّلات.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ صندوق النقد كان قد تبنّى بشكل واضح –في الاتفاق مع لبنان- مبدأ إعادة الهيكلة الفوريّة للقطاع المصرفي، ومعالجة الخسائر الموجودة في القطاع "بشكل مسبق"، مع حماية صغار المودعين وتقليص ثقل هذا المسار على المال العام. وحتّى هذه اللحظة، لم يبدأ المجلس النيابي بالنقاش الجدّي في مشاريع قوانين إعادة الانتظام للقطاع المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، فيما شنّت جمعيّة المصارف حربًا شرسة رفضًا لهذه المقاربات التي ستقتص من رساميلها.

بيان كلنا إرادة
في جميع الحالات، وبعد لقائها ببعثة صندوق النقد، أصدرت منظمة "كلنا إرادة" بيانًا أشار إلى نوعيّة المحادثات التي جرت مع البعثة، والتي استعادت فيها المنظمة "عدم جدّية الطبقة الحاكمة في التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستخدام المفاوضات معه كوسيلة لكسب الوقت، في حين تسهب في تنفيذ خطّة ظلّ". كما ذكرت المنظمة بسعي "الطبقة الحاكمة إلى تقويض أي خطوة لتنفيذ الإصلاحات"، عبر اتباعها "جميع أساليب المُماطلة لإبقاء التزاماتها مجرّد حبرٍ على ورق، ممّا يؤشّر إلى عدم وجود نيّة حقيقية للإصلاح وتسهيل تنفيذ برنامج الصندوق المُمدّد لمدة أربع سنوات".

بيان كلنا إرادة، فنّد المقصود بخطّة الظل، القائمة على "ليلرة الودائع، وتحميل المجتمع الخسائر المُحقّقة في النظام المصرفي، فضلاً عن فرض المزيد من الإجراءات التقشفيّة على الفئات الأضعف ممّا يؤثّر أيضاً على آفاق التعافي في لبنان وعلى شكل المجتمع فيه". وبالنتيجة، ذكّرت المنظمة بأن خسائر القطاع المالي ما زالت تتراكم "ممّا يفرز نتائج مدمِّرة للمجتمع والاقتصاد، يرافقها تفكّك كامل لمؤسّسات الدولة".

في النتيجة، سيكون علينا انتظار تقرير الصندوق النهائي خلال الأيّام المقبلة، بالإضافة إلى ما سيقوله أعضاء البعثة في مؤتمرهم الصحافي يوم الخميس المقبل. أمّا الأكيد، فهو أن مضمون النقاشات أكّد أن لبنان مازال بعيدًا عن دخول برنامج الصندوق، بفعل العراقيل المتعمّدة التي تضعها لوبيات السياسة والمال، دفاعًا عن المصالح التي يمكن أن تتضرّر من الإصلاحات التي يمكن أن يفرضها هذا البرنامج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها