الأحد 2023/03/19

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

الخطر مستمرّ: مصير كريدي سويس سيُحدد خلال ساعات

الأحد 2023/03/19
الخطر مستمرّ: مصير كريدي سويس سيُحدد خلال ساعات
تعيش أسواق المال حالة من الهلع (Getty)
increase حجم الخط decrease

تنفّس كثيرون الصعداء، عندما وافق البنك المركزي السويسري على منح مصرف كريدي سويس تسهيلات طارئة بقيمة 54 مليار دولار يوم الخميس، مفترضين أن "قبلة الحياة" هذه ستمكّن المصرف من تجاوز أزمة السيولة التي يمر بها. لكن وبخلاف كل هذه التوقّعات، انتهى الأسبوع الحالي بخسارة أسهم المصرف ربع قيمتها، مقارنة بنهاية الأسبوع الماضي، ما يشير إلى أنّ الأسواق ما زالت تتوقّع بقاء المصرف في دائرة الخطر. مع الإشارة إلى أنّ سلسلة الأزمات التي عصفت بالمصرف خلال الأشهر الماضية أدّت إلى خسارة أسهمه 75% من قيمتها، على امتداد الأشهر الـ12 الماضية.

أمّا خطورة ما يجري، فتكمن في أنّنا نتحدّث هنا عن أحد أكبر 30 مصرفاً في العالم، ما يعني أنّ انهيار المصرف أو تصفيته لن يتركا تداعيات محدودة الأثر كما جرى في حالة مصرف سيليكون فالي. وبصورة أوضح، بإمكان المصرف، وما يتداخل في ميزانيته من أصول والتزامات مرتبطة بمؤسسات ماليّة أخرى، أن يكون شرارة الأزمة الماليّة العالميّة التي يخشى منها كثيرون اليوم. وهذا ما يدفع الهيئات الرقابيّة السويسرية إلى الضغط على إدارة المصرف، للبت بمصيره وإمكانيّة بيعه، قبل فتح الأسواق يوم غد الإثنين. مع الإشارة إلى أن السيناريو المرتقب الآن هو دمجه أو عرضه للاستحواذ، من قبل "UBS"، أكبر المصارف السويسريّة.

مفاوضات شاقّة مع "UBS" وكريدي سويس
حتّى ساعات ليل أمس السبت المتأخّرة، استمرّ المسؤولون الحكوميون والهيئات الرقابيّة في سويسرا بعقد الاجتماعات المكوكيّة مع إدارات مصرفي كريدي سويس و"UBS"، بهدف التوصّل إلى تسوية تقضي بدمج المصرفين أو بيع كريدي سويس لـ"UBS" على جناح السرعة، وإطفاء الهلع الذي يضرب أسواق المال حاليًا.

وكانت الحكومة السويسريّة قد عقدت بدورها اجتماعًا مطوّلًا لهذه الغاية مساء أمس، من دون أن تصدر أي بيان أو إعلان رسمي، ما أشار بوضوح إلى حساسيّة المفاوضات وخطورة الموقف الذي تمر به أسواق المال. وتجدر الإشارة إلى أن كريدي سويس كان قد ورث من العام 2022 تآكلًا في ميزانيّته بقيمة 7.9 مليار دولار، نتيجة أكبر كتلة خسائر سنويّة يُمنى بها المصرف منذ حصول الأزمة الماليّة العالميّة في 2008.

على المقلب الآخر، تبدو ميزانيّة "UBS"، الأكبر من ناحيتي الميزانيّة وحجم العوائد، في وضع أفضل نسبيًا على مستويات السيولة والملاءة والسمعة، إذ حقق المصرف خلال العام الماضي أرباحاً سنويّة قاربت قيمتها 7.6 مليار دولار، ما يدل على عدم تعرّضه لنوعيّة المخاطر نفسها التي تعرّض لها كريدي سويس خلال العام الماضي. وهذا تحديدًا ما يفسّر انكباب جميع الجهات الرسميّة على ترشيح "UBS" لمهمّة الاستحواذ على كريدي سويس، ولو بثمن بخس، ومن ثم التعامل مع إلتزاماته وتصفية ما يجب تصفيته من موجوداته.

ومن الواضح أنّ السلطات السويسريّة لا تخشى فقط أثر انهيار كريدي سويس على أسواق المال، بل على سوق العمالة المحلّي لديها. إذ يعمل لدى المصرف حاليًا نحو 50.48 ألف موظّف، من بينهم 16.7 ألف موظّف مقيم في سويسرا. وهذا تحديدًا ما سيجعل من أزمة كريدي سويس أزمة اجتماعيّة داهمة، لا مجرّد أزمة ماليّة تقتصر تداعيتها على القطاع المصرفي أو أسواق المال. مع العلم أن كريدي سويس يمثّل أبرز اللاعبين في أسوق صيرفة الاستثمار وإدارة المحافظ الماليّة وتقديم خدمات الصيرفة الخاصّة، ما يربط تلقائيًا مخاطر ميزانيّته بميزانيّات الغالبيّة من المؤسسات الماليّة السويسريّة والعالميّة الكبرى. ومن هنا، تبرز مخاطر "تأثير الدومينو"، والتي يمكن أن تسبب تداعي مؤسسات أخرى في حال تعثّر كريدي سويس.

"UBS" يحاول فرض شروطه وكريدي سويس محشور
في كل الحالات، وكما كان متوقّعًا، لم يبصم "UBS" حتّى اللحظة على صفقة استحواذ بنك كريدي سويس، بل يبدو أنّ المصرف المعافى يحاول فرض أفضل الشروط لصالحه قبل التورّط في عمليّة استيعاب المصرف المتعثّر.

وأهم ما يطالب به "UBS" حاليًا، هو إشراك الحكومة السويسريّة في العمليّة، من خلال تمويل خاص بقيمة 6 مليار دولار. وفي هذه الحالة، يكون "UBS" قد طلب إضافة هذا المبلغ إلى الـ54 مليار دولار التي تورّط بتقديمها المصرف المركزي، كتسهيلات إئتمانيّة لكريدي سويس، ما سيرفع من ثقل هذه الأزمة المصرفيّة على الأموال العامّة.

في النتيجة، وفي حال عدم التوصّل إلى اتفاق من هذا النوع بحلول مساء اليوم الأحد، ستترقّب الأسواق نتائج فتح فروع المصرف صباح غد الإثنين، مع كل ما تعيشه أسواق المال من هلع وخشية على مصير المصرف. وكما هو معلوم، سيؤدّي كل ذلك إلى اشتداد وطأة سحوبات المودعين من المصرف، ما سيجبره خلال الأيام المقبلة على بيع المزيد من الأصول والموجودات، ولو بخسائر إضافيّة.

ولعلّ أبرز الأصول التي ستكبّد كريدي سويس خسائر جديدة في حال بيعها في هذا الظرف بالذات، للتعامل مع أزمة السيولة، ستكون سندات الدين ذات العوائد الثابتة، والتي تنخفض قيمتها حاليًّا في الأسواق نتيجة ارتفاع معدلات الفوائد. مع الإشارة إلى أنّ المصرف كان بإمكانه الاحتفاظ بهذه السندات على المدى البعيد، واستيفاء قيمتها الفعليّة من الدائنين عند الاستحقاق، لولا ضغوط سحوبات المودعين على سيولته.

أزمة كريدي سويس وإرث العام 2022
يسيطر مصرف كريدي سويس على 30% من السوق المصرفي المحلّي في سويسرا، ما يفرض عليه –وبخلاف مصرف سليكون فالي- الامتثال لقواعد صارمة من ناحيتي السيولة والملاءة.

إلا أنّ المصرف تورّط منذ العام الماضي بمجموعة من المشاكل المرتبطة بمخاطر الفائدة، وتحديدًا تلك التي تنتج عن تدنّي قيمة محفظة السندات نتيجة ارتفاع نسب الفائدة. كما عانى من مخاطر السمعة الناتجة عن العديد من الفضائح، التي أثارت الشكوك في نوعيّة استثماراته وطريقة إدارتها.

وهذا تحديدًا ما تسبب بخروج أكثر من 111 مليار فرنك سويسري في نهاية العام الماضي، نتيجة خشية المودعين من مآلات المصرف. وبفعل ضغط السحوبات، اضطرّ كريدي سويس إلى بيع المزيد من سندات الدين التي يملكها، وبأسعار السوق المنخفضة حاليًّا، ما أضاف المزيد من الخسائر إلى ميزانيّته. ومع انتهاء العام 2022، تبيّنت صدقيّة كل مخاوف مودعي كريدي سويس، مع انكشاف كتلة الخسائر التي مُني بها المصرف خلال السنة، والتي أشرنا لها سابقًا.

هكذا، دخل كريدي سويس العام 2023 محمّلًا بأسوأ ما يمكن أن يرثه من العام السابق: خسائر في الميزانيّة، وقلقاً في السوق، وهلعاً لدى المودعين. وتدريجيًا، تزايدت كل هذه الضغوط على الفترة الأخيرة، بعدما أعلن البنك الوطني السعودي عدم نيّته زيادة مساهمته في المصرف، ما أثار مخاوف المستثمرين والمودعين من أسباب هذا القرار. وما إن حصلت أزمة بنك وادي السيليكون، المرتبطة بدورها بمخاطر الفوائد المشابهة لما تعرّض له كريدي سويس خلال العام الماضي، حتّى انطلقت موجة السحوبات خلال الأيّام الماضية.

ببساطة، تمكنت تسهيلات المصرف المركزي السويسري من معالجة ضغط السحوبات لأيّام قليلة، لكنّها لن تكون كافية حتمًا لمعالجة الأزمة المستمرّة منذ العام الماضي، والتي ستهدد مستقبل المصرف التي تم تأسيسه منذ أكثر من 167 عامًا. أمّا الحل الوحيد على الطاولة، فهو بيع المصرف بكل ما فيه، قبل أن يصل إلى المرحلة التي تفرض تصفيته، خصوصًا في ظل رفض أي مستثمر محلّي أو أجنبي ضخ أي استثمارات جديدة لتعويم أموال المصرف الخاصّة أو رساميله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها