الأربعاء 2022/12/07

آخر تحديث: 09:45 (بيروت)

العولمة الاقتصاديّة لم تمت...لكنها ليست بخير أبدًا!

الأربعاء 2022/12/07
العولمة الاقتصاديّة لم تمت...لكنها ليست بخير أبدًا!
تلوح في الأفق نذر حرب تجاريّة بين ضفّتي الأطلسي(Getty)
increase حجم الخط decrease

في مطلع القرن الحالي، كان العالم بأسره ما زال أسير الرهان المطلق على نظريّات التجارة الدوليّة الحرّة، القائمة على مبدأ الميزة النسبيّة. استخدمت الدول المتقدمة والمؤسسات الدوليّة نفوذها لدفع الدول النامية والفقيرة باتجاه هذا المسار، لفتح أسواقها بلا قيود أمام الإنتاج الأجنبي، والتخلّي عن السياسات الحمائيّة، التي كانت تحصّن قطاعاتها الإنتاجيّة المحليّة في وجه المنافسة الخارجيّة. وكانت الإيديولوجيا المهيمنة في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تبشّر بالعولمة الاقتصاديّة وتحرير الأسواق، كنهاية لا بد منها، بما يسمح لكل سوق بالتخصص بانتاج السلع التي تلائم ميزاته التنافسيّة، بعد إزالة العوائق الجمركيّة بين دول العالم.

صنم التمر الذي أكلته الدول المتقدمة
على هذا الأساس، دمرت الكثير من الدول الناشئة -ومنها لبنان بالمناسبة- قطاعاتها المحليّة المنتجة بفعل هذا النوع من الرهانات والسياسات، من دون أن تبصر خيرات ومنافع العولمة الموعودة، التي لطالما بشّرت بها المؤسسات الدوليّة والدول المتقدمة. ببساطة، لم يحقق هذا المسار خلال العقود الماضية سوى هيمنة التكتلات الصناعيّة الكبرى على الأسواق، بعد أن تخلّت الاقتصادات الضعيفة عن كل أدوات الحماية التي تملكها. وفي النتيجة، كان تبشير العالم المتقدم بالعولمة الاقتصاديّة مجرّد اندفاعة باتجاه تحقيق مصالحه بالدرجة الأولى.

اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تتزايد المؤشّرات التي تدل على أن العولمة الاقتصاديّة مأزومة، وعنوان أزمتها السياسات الحمائيّة التي عادت إلى تبنيها الدول المتقدمة بالتحديد! فمنذ أزمة 2008 الماليّة العالميّة، ومرورًا بالأزمات التي رافقت وتلت تفشّي وباء كورونًا، وصولًا إلى حروب الطاقة وسلاسل توريد الأغذية التي نشأت على هامش الحرب الأوكرانيّة، ومعها حروب قطاع التكنولوجيا، بدا أن العولمة وفتح الأسواق لم يكن سوى "صنم التمر" الذي قدّسته الدول المتقدمة وجعلته إلهً، قبل أن تأكله بنفسها في اللحظة التي جاعت فيها.

وبعد أن دفعت دول العالم الثالث ثمن الإنجرار خلف نظريّات تحرير الأسواق أمام التجارة الدوليّة، بدفع من الدول المتقدمة والمؤسسات الدوليّة، سرعان ما انعطفت الدول المتقدمة بعيدًا عن كل هذه الشعارات، في اللحظة التي فرضت مصالحها ذلك.

الحرب التجاريّة بين ضفتي الأطلسي
قبل أيّام، كان الرئيس الأميركي جو بايدن يحتفل مع نظيره الفرنسي إيمانيول ماكرون بمناسبة مرور 200 سنة على العلاقات بين الدولتين. إلا أنّ المناسبة الاحتفاليّة، كانت تخفي في طيّاتها تفاوضًا بين الدولتين على الإجراءات التي ستصاحب تطبيق قانون خفض التضخّم الأميركي، الذي اقترحته إدارة الرئيس بايدن، والذي ترى فيه فرنسا قانونًا حمائيًّا يضر بمبادئ التجارة الحرّة، ويعزز تنافسيّة السلع الأميركيّة على حساب مثيلاتها الأوروبيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا القانون يشمل إجراءات داعمة للقطاع الصناعي الأميركي، في وجه المنافسة الأجنبيّة.

وزير الاقتصاد والماليّة الفرنسي برونو لومبر كان شديد الصراحة في التعبير عن ضيق صدر الفرنسيين إزاء الإجراءات الحمائيّة الأميركيّة المستجدة، حين سأل بصريح العبارة: ما هو نوع العولمة التي تنتظرنا؟ وليوضح لومبر فكرته بشكل فج، ذكّر بأن "الصين تفضّل الإنتاج الصيني، وأميركا تفضّل الإنتاج الأميركي، وحان الوقت لتفضّل أوروبا الإنتاج الأوروبي". وفي دعوة مباشرة لاتخاذ إجراءات حمائيّة مضادة، دعا لومبر الدول الأوروبيّة إلى تعلّم "كيفيّة حماية مصالحنا الاقتصادية والدفاع عنها بشكل أفضل".

هكذا، تلوح في الأفق نذر حرب تجاريّة بين ضفّتي الأطلسي، بلغت حد إشارة رئيسة الوزراء الفرنسيّة إليزابيت بورن بأن فرنسا "لن تقف مكتوفة اليدين في مواجهة خطة الاستثمار الأمريكية الهائلة لمكافحة التضخم، التي ستضر بالمنافسة التجارية". في حين وعد وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك برد أوروبي قوي، في مواجهة الإجراءات التي ستتخذها الولايات المتحدة الأميركيّة. والرد القوي، لن يكون عمليًّا سوى إجراءات حمائيّة مضادة، ومتناسبة مع الإجراء الأميركي، من قبيل تأسيس "صندوق سيادي أوروبي لدعم المشاريع الصناعيّة"، كما اقترح المفوض الأوروبي لشؤون السوق الداخلية تييري بروتون، وهو ما من شأنه تعزيز تنافسيّة الصناعات الأوروبيّة مقابل مثيلتها الأميركيّة.

سياسات حمائيّة أميركيّة وأوروبيّة سابقة
لم تكن إجراءات قانون خفض التضخّم أبرز الإجراءات الحمائيّة التي لجأت إليها إدارة بايدن مؤخّرًا. فخلال العام الماضي، لجأت الإدارة الأميركيّة إلى الإعلان عن نسخة معدلة من قانون "شراء السلع الأميركيّة"، حيث نصّت التعديلات على ضرورة أن تشتمل أي سلعة تُشتَرى بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين على محتوى محلي مصنوع في الولايات المتحدة بنسبة 75%، مقارنة مع 55% حالياً.

في ذلك الوقت، كان الاتجاه الحمائي لإدارة بايدن واضحًا في تبريره لهذا القرار، حين أعلن أن الهدف هو "ضمان أن كلَّ شيء، ابتداءً من ظهر حاملة الطائرات وانتهاءً بالفولاذ المستخدم في صناعة حواجز الحماية على الطرق، مصنوعٌ في الولايات المتحدة من الألف إلى الياء".

ولتبرير هذا الاتجاه، ذكّر بايدن كيف "رأينا خلال الجائحة أن الاختلال في سلسلة الإمداد يمكن أن يُعرِّض حياة الأمريكيين وأسباب عيشهم للمخاطر. وعندما كُنّا في أمسِّ الحاجة للكمامات وملابس الأطباء والممرضين والقفازات وأجهزة التنفس ومنتجات صحية ضرورية أخرى، تعَيَّن علينا شراؤها من الخارج". ولتعزيز الإنتاج المحلّي، يعتبر بايدن أن المطلوب "وضع نظام جديد للأفضلية السعرية، بما يضمن امتلاك القدرة المحلية التي تحمينا من النقص، وارتفاع الأسعار في المستقبل".

على الضفّة الأخرى من الأطلسي، لم تقل السياسات الحمائيّة الأوروبيّة شأنًا. في ألمانيا، ثمّة 200 مليار يورو من أموال الدعم التي سيتم استعمالها لحماية الصناعات الألمانية من أثر ارتفاع أسعار النفط والغاز، وهو سيعزز تنافسيّة الإنتاج الألماني في مواجهة السلع المستوردة الأخرى، بما فيها تلك التي يتم انتاجها داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. وهذه الخطوة، كانت كفيلة بإثارة حفيظة فرنسا مرّة أخرى، التي رأت في هذا النوع من مظلات الحماية خرقًا لمبدأ المنافسة النزيهة بين صناعات الدولتين، وحمائيّة تجاريّة غير مبرّرة.

الحروب التجاريّة بين التكتلات الصناعيّة
على هذا النحو، اندلعت طوال السنوات الثلاث الماضية الحروب التجاريّة بين التكتلات الصناعيّة الكبرى، ولأسباب مختلفة. على خط التماس الأميركي-الصيني، تبادلت الدولتان فرض الرسوم الجمركيّة المتزايدة على الألات والمعادن، بما طال تدفقات تجاريّة ناهزت قيمتها ال450 مليار دولار. وفي الوقت الراهن، تستمر الولايات المتحدة بتطويق الصين تكنولوجيًّا، من خلال فرض القيود على واردات الرقائق الإلكترونيّة والبرمجيّات التي تستفيد منها الشركات الصينيّة. وهذا النوع من الحروب التجاريّة، كان من شأنه إخراج شركة هواوي الصينيّة من المنافسة في سوق الهواتف الذكيّة، بعدما كانت تنافس منذ سنوات على تصدّر قائمة مصنّعي هذه الهواتف.

وعلى هامش الحرب الأوكرانيّة، اندلعت حروب الطاقة، التي فرضت فيها مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي سقفًا لأسعار النفط الروسي، بمعزل عن آليّات العرض والطلب، فيما استعمل بوتين قطع الغاز كسلاح في وجه الدول الأوروبيّة. وعلى هامش الحرب نفسها، تحوّلت سلاسل توريد الأغذية ومصادر الطاقة إلى أداة من أدوات الضغط المتبادل، فيما سارعت الدول المنتجة للحبوب إلى إجراءات تخزين المواد الغذائيّة ومنع التصدير لضمان أمنها الغذائيّ. مع الإشارة إلى أن هذا النوع من التدابير كان قد بدأ أساسًا، ولو على نطاق أضيق، منذ مرحلة تفشّي وباء كورونا، وما تلاها من ضغوط على سلاسل التوريد.

كل ما سبق لم يكن سوى أمثلة من مجموعة كبيرة من التطورات، التي تؤكّد أن دول العالم المتقدّم بدأت منذ سنوات بالابتعاد عن مبادئ العولمة الاقتصاديّة وتحرير الأسواق البديهيّة، لحساب تبنّي إجراءات الحروب التجاريّة المتبادلة، وتوظيف هذه الإجراءات في الصراعات السياسيّة وحروب المصالح. وفي واقع الأمر، ما يجري اليوم ليس سوى استكمال لمسار بدأ منذ الأزمة الماليّة العالميّة، وما تلاها من تدخلات ومعالجات اقتصاديّة رسميّة، خرجت عن نطاق مبادئ السوق المفتوحة التقليديّة. بالتأكيد، لا يعني كل ذلك أن العولمة تنازع، لكنّها حتمًا لم تعد على ما يرام.  

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها