الجمعة 2022/12/30

آخر تحديث: 11:07 (بيروت)

تداعيات سعر منصة الصيرفة الجديد

الجمعة 2022/12/30
تداعيات سعر منصة الصيرفة الجديد
تهافت المواطنون على شراء الدولارات عبر منصة "صيرفة" (المدن)
increase حجم الخط decrease

سبق لمصرف لبنان أن أصدر مجموعة من التعاميم خلال العامين (2021-2022)، لا سيما التعاميم الأساسية (151-154-158-161) وسواها. وقد أجاز التعميم رقم 161 الصادر بتاريخ 2021/12/16، المعمول به حتى نهاية العام الحالي 2022، للمصارف التجارية أن تدفع لعملائها السحوبات النقدية التي يحق لها سحبها بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، وفق الحدود التي يعتمدها كل مصرف على حدة، على أن تكون "بالفريش دولار" وفق سعر الصرف المحدد على منصة صيرفة في اليوم السابق للسحب. وقد أوضح حاكم مصرف لبنان أن الغاية من هذا التعميم هو جعل سعر صرف الدولار الأميركي تحت السيطرة في السوق الموازية، أو ما يسمى بالسوق السوداء، عبر سحب الليرات اللبنانية من السوق وضخ الدولارات بالمقابل، وتطبيق هذا التعميم على العاملين في القطاع العام والإفادة من تطبيقاته والقبض بالدولار على أساس سعر منصة الصيرفة بدلاً من الليرة اللبنانية، ضمن الحدود المسموح بها شهرياً، من أجل المحافظة على القدرة الشرائية في مواجهة التدهور المستمر في قيمة العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية. كما أجاز التعميم رقم 151 للمودعين سحب مبالغ بالليرة اللبنانية المسموح بها شهرياً كحد أقصى، من ودائعهم بالدولار الأميركي، حسب سعر السوق المحدد من قبل مصرف لبنان، والمحدد حتى نهاية تاريخه بقيمة (8000 ل.ل) للدولار الواحد أي باقتطاع قسري (هيركات) بنسبة تقارب 83% من قيمة الوديعة.

أما التعميم رقم 158، والمقرر استمراره لمدة خمس سنوات بدءاً من العام 2021، فقد أجاز سحب (800 دولار) شهرياً، تدفع منها 400 دولار بالفريش ماني، أما الباقي فيدفع على سعر صرف (12,000 ل.ل) للدولار الواحد أي بنسبة إقتطاع تقارب 80% من قيمة الوديعة المسحوبة.

إزاء هذا الواقع، كان ينبغي وضع حد للنزيف المالي بالعملات الأجنبية، لا سيما الدولار الأميركي، ومنع تهريبه إلى خارج الأراضي اللبنانية منذ نهاية العام 2018، عبر إقرار قانون "الكابيتال كونترول" منعاً للتدهور المالي والاقتصادي، ولقيمة العملة الوطنية ذات الارتباط الوثيق بالدولار الأميركي، إلا أن ذلك لم يحصل حتى الآن، حيث ارتفع سعر صرف الدولار تجاه الليرة اللبنانية خلال تلك الفترة من (1,500 ل.ل) إلى قرابة (48,000 ل.ل) حتى نهاية العام الحالي، ومفاقمة الأزمة الاقتصادية والمعيشية على جميع الأصعدة. 

ومع اقتراب نهاية العام الحالي 2022، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً جديداً بتاريخ 2022/12/27، قضى بموجبه تحديد سعر جديد للدولار الأميركي على منصة صيرفة، بقيمة (38,000 ل.ل) للدولار الواحد، بعدما كان محدداً بقيمة (31,200 ل.ل) للدولار الواحد قبيل تاريخ  صدورهذا التعميم. كما حدد سعر الصرف للمؤسسات المالية (OMT) بقيمة (42,200 ل.ل) للدولار الواحد، مما أدى إلى ارتفاع نسبي في سعر صرف الدولار في السوق الموازية، من (37,000 ل.ل) إلى (44,150 ل.ل) للدولار الواحد ما لبث أن عاد إلى الإرتفاع تدريجياً ليصل إلى حدود (46,000 ل.ل) للدولار الواحد مساء الأربعاء في 2022/12/28، كما تراوح سعر الصرف لدى الصرافين في هذا التاريخ ما بين (43,000 ل.ل حتى 44,000 ل.ل) كما امتنع عدد كبير من الصرافين عن بيع الدولار مفضلين البقاء في حالة الترقب والانتظار، لاستكشاف التداعيات المستقبلية على سعر صرف الدولار، لأن التعميم الأخير أجاز لشريحة واسعة من اللبنانيين الاستفادة من سعر الصيرفة الأخير، من المودعين على اختلافهم وأصحاب المؤسسات المالية والشركات المختلفة، بشراء كل ما يعرضونه من الليرات اللبنانية مقابل الحصول على الدولار الأميركي من دون سقف محدد، لجمع أكبر كتلة من العملة الوطنية وعدم إعادة الطباعة مجدداً، مشكلاً بذلك فائض قيمة في الطلب على شراء الليرة، وضخ الدولار في السوق التجاري بنسبة عالية. فهل سوف يتمكن مصرف لبنان من وضع حد للارتفاع الجنوني والمتسارع لسعر الدولار في السوق الموازية بما يتمتع به من صلاحيات تجيزها له (المادتان 75 و83) من قانون النقد والتسليف؟ وهل باستطاعة مصرف لبنان تأمين الدولارات بالكميات المطلوبة للرد على حاجة السوق في ظل الإقبال المتصاعد على الاستيراد من الخارج، والخلل الفادح في الميزان التجاري وهروب الدولار نحو الخارج تلبية لحاجات الاستيراد؟ وما هو انعكاس تلك الإجراءات على الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص وعلى القيمة الشرائية للعملة الوطنية؟ وما هي التداعيات السلبية لمثل تلك الإجراءات؟ 

إن حالة البلبلة وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تسود البلاد في ظل الشغور الرئاسي، وعدم وجود حكومة كاملة الصلاحيات، سوف تعيق إمكانية السيطرة على السوق الموازية، لأن من أبسط مقومات استقرار سعر صرف العملة الوطنية، هي حالة الاستقرار السياسي والنمو أو الازدهار الاقتصادي في الوطن وزيادة الناتج المحلي، مهما أجاز القانون للمصرف المركزي من صلاحيات وتدابير حمائية أو إحترازية أو تدخل في سوق العرض والطلب على العملات المتداولة. فالمعيار السياسي والاقتصادي هو الأساس في استقرار سعر الصرف  للعملة الوطنية، كما أن مؤسسات أو شركات الصرافة المالية لن تتمكن من تجميع الدولارات بالقيمة الإجمالية المطلوبة، نظراً لاتساع نطاق التعميم الأخير والحاجة المضاعفة للكميات المطلوبة من الدولار الأميركي لسد حاجة الطلب المتزايدة عليه، عدا عن الاستنزاف الدائم للعملات الأجنبية في عمليات الاستيراد للحاجات الضرورية، وعلى رأسها المحروقات والمواد الغذائية والصناعية، بما يعادل (10%) من قيمة الصادرات، وإن المساس المتواصل بالاحتياطي الإلزامي من العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، والتي تشكل بغالبيتها ما تبقى من ودائع المودعين، أصبح في غاية الخطورة على مستقبل الإتقرار النقدي والقيمة الشرائية للعملة الوطنية. 

لقد ساهم هذا التعميم وبسرعة قياسية في انخفاض قيمة الرواتب والمساعدات الاجتماعية المعطاة مؤخراً للعاملين في القطاع العام تجاه الدولار الأميركي بنسبة لا تقل عن (20%) من قيمتها التي أقرها قانون الموازنة للعام 2022، فإذا كان راتب الموظف الأساسي يساوي خمسة ملايين ليرة، ويصبح مع المساعدين الإضافيين بقيمة خمسة عشر مليوناً، كان حتى الأمس القريب يعادل على سعر منصة صيرفة ما قبل الأخير قرابة (480,76 دولاراً أميركياً) ليصبح بعد التعميم الأخير معادلاً لقيمة (394,73 دولاراً أميركياً) أي بانخفاض قدره (86,03 دولاراً أميركياً) وبما يتعارض مع قانون الموازنة الأخير. كما ارتد هذا التعميم ليطال بمفعول رجعي جميع طلبات السحب على سعر صيرفة ما قبل الأخير. أي (31,200 ل.ل) والمقدرة بعشرات آلاف الطلبات، والتي تأخرت غالبية المصارف عن تسديدها خلال هذا الشهر لطالبيها بأساليب العرقلة الاحتيالية، وبما يتعارض أيضاً مع مبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية إلا بإرادة المشترع أو بحكم القضاء. لكن يبدو أن سلطة حاكم مصرف لبنان، هي فوق إرادة المشترع والقضاء والقوانين النافذة. وللأسف نقول إننا قادمون على مشارف سنة مثقلة بالأعباء والوعود الكاذبة، جراء التعاميم الجائرة والعشوائية، من حاكم بات ملاحقاً أوروبياً بتهم الفساد، لكنه محصن في الداخل من منظومة الفاسدين في السلطة، ومن غياب الخطة السياسية العامة ذات الأبعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية لحكومة تصريف الأعمال الحالية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها