ومنذ بداية العام، كان واضحًا أنّ ارتفاع معدلات التضخّم العالميّة يزيد من وطأة استنزاف الدولارات والحاجة إليها، وخصوصًا بعد ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائيّة الذي أعقب اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما انعكس دائمًا في أرقام ميزان المدفوعات (راجع المدن). لكن كما هو واضح، ومع اقترابنا من نهاية العام، يتزايد شيئًا فشيئًا العجز في هذا المؤشّر مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما ظهر في الأرقام التي جرى نشرها خلال الأيام الماضية. وخلال الأشهر المقبلة، إذا نجح قرار تحالف أوبيك+ القاضي بتقليص إنتاج النفط بزيادة الضغط على أسعار النفط عالميّة، من المتوقّع أن ترتفع حدّة استنزاف الدولارات في لبنان مقارنة بالأشهر السابقة.
حركة المنصّة
على مستوى حركة منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة في مصرف لبنان، ارتفع حجم عمليّات المنصّة ليتجاوز حدود 10 مليار دولار منذ بداية السنة ولغاية اليوم، منها 2.55 مليار دولار فقط تم تمويلها من احتياطات المصرف المركزي. مع أهميّة الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان عكس اتجاه تدخلاته من خلال المنصّة منذ منتصف شهر أيلول ولغاية بداية الشهر الحالي، ليتحوّل إلى شراء الدولار من السوق الموازية بدل ضخّه كما فعل منذ بداية السنة (راجع المدن). ورغم أن مصرف لبنان أعلن مؤخرًا اتجاهه إلى وقف عمليّات شراء الدولار من السوق الموازية، من المفترض أن تعكس الميزانيّة النصف شهريّة المقبلة صحّة أو عدم صحّة هذه الوعود.
في جميع الحالات، وخلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع الماضي، بدا واضحًا أن مصرف لبنان ثبّت حجم تداولات المنصّة اليوميّة عند حدود 35 مليون دولار فقط، وبسعر صرف بلغ حدود 30300 ليرة للدولار الواحد. مع العلم أن سعر الصرف هذا لا تتجاوز قيمته 76% من سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، وهو ما يطبّع الفارق الكبير بين سعر صرف المنصّة وسعر صرف السوق.
حركة الميزانيّات المصرفيّة
على مستوى الميزانيّات المصرفيّة، أظهرت الأرقام استمرار تناقص حجم محفظة سندات اليوروبوند التي تملكها المصارف اللبنانيّة، والتي انخفضت قيمتها إلى حدود 3.73 مليار دولار في أواخر شهر أيلول الماضي، وهو ما يوازي نصف حجم هذه المحفظة قبل سنة كاملة بالضبط.
وتشير هذه الأرقام عمليًّا إلى استمرار عمليّات بيع سندات اليوروبوند التي تملكها المصارف في الأسواق العالميّة، ما يزيد من نسبة حملة سندات اليوروبوند الأجانب، ويزيد من تعقيدات التفاوض لإعادة هيكلة هذه السندات. وفي جميع الحالات، من المعلوم أن المصارف اللبنانيّة تتكبّد من ميزانيّاتها خسارة وازنة نتيجة إجراء هذه العمليّات، نتيجة الفارق بين قيمة السندات الأسميّة الواردة في الميزانيّات وقيمتها السوقيّة المعتمدة للتداول، إذ يجري بيع هذه السندات حاليًّا بأسعار لا تتجاوز قيمتها 6% من قيمة السندات الإسميّة. ومع ذلك، يبدو أن تخلّص المصارف من هذه السندات بات وسيلة للحصول على السيولة بالعملات الصعبة بأي ثمن، بغياب أي تشريع يضبط كيفيّة استعمال المصارف لهذه السيولة في الوقت الراهن.
على مستوى الودائع، استمرّ التراجع بحجم الودائع المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، التي انخفضت قيمتها بنسبة 10.41% مقارنة بالسنة الماضية بالنسبة لودائع غير المقيمين، وبـ7.85% بالنسبة لودائع المقيمين. وفي المحصّلة، بات حجم ودائع القطاع الخاص بالعملات الأجنبيّة الإجمالي يقف عند حدود 96.27 مليار دولار، في نهاية شهر أيلول الماضي. وتشير الأرقام إلى أنّ حجم توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي بالعملة الصعبة يوازي نحو ثلثي قيمة هذه الودائع، فيما يفترض أن تكوّن المصارف مؤونات مقابل الخسائر التي ستترتّب على هذه التوظيفات، في إطار عمليّة إعادة الرسملة لاحقًا.
في النتيجة، تتزايد المخاطر الخارجيّة، فيما تتزايد في الوقت نفسه مكامن الهشاشة والضعف داخليًا، ما يمثّل بيئة مناسبة لتفاقم جميع تداعيات الانهيار الذي تمر به البلاد. أمّا أخطر ما في الموضوع، فهو أن الفراغين الرئاسي والحكومي الحاليين، سيضيفان من العوائق التي تحول دون السير بالخطط والمعالجات المطلوبة، وهو ما سيعرقل مسار الإنقاذ الاقتصادي بشكل تام حتّى إشعارٍ آخر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها