الأحد 2021/09/05

آخر تحديث: 17:28 (بيروت)

الدولة آخر من يعلم: سلامة يلتهم دولاراتها

الأحد 2021/09/05
الدولة آخر من يعلم: سلامة يلتهم دولاراتها
حاكم المصرف المركزي وجد طريقه لالتهام قيمة معتبرة من العملة الصعبة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

في سياق الحديث عن الأزمة الماليّة اللبنانيّة، غالباً ما يُشار إلى قيمة الدولارات التي تخرج من احتياطات مصرف لبنان لتمويل نفقات الدولة اللبنانيّة وعقودها بالعملة الصعبة، كعبء ينبغي التعامل معه.

وهذا الاستنزاف، الذي يذهب لتأمين حاجات مؤسسات الدولة اللبنانيّة الملحّة، يختلف في طبيعته عن ما كان يُعرف بعمليّة دعم الاستيراد، التي كانت تقوم على تأمين حاجة القطاع الخاص للدولارات المطلوبة لاستيراد السلع الأساسيّة، كالقمح والمحروقات والدواء. في كل الحالات، تشير تقديرات وزارة الاقتصاد إلى أن مصرف لبنان باع العام الماضي ما يقارب 1.2 مليار دولار من العملة الصعبة للدولة اللبنانيّة، من احتياطاته وبسعر الصرف الرسمي، لتتمكن الدولة من تمويل نفقاتها بالدولار الأميركي.

لكنّ كل ما سبق لا يختصر المشهد بدقّة. ففي مقابل هذه الدولارات التي يؤمّنها مصرف لبنان للدولة، يبدو أن حاكم المصرف المركزي وجد طريقه لالتهام قيمة معتبرة من العملة الصعبة التي كان يفترض أن تصب من المؤسسات الدوليّة كمساعدات لمصلحة مؤسسات الدولة. هذه العمليّة باتت تتم من خلال مصادرة الدولارات من قبل مصرف لبنان، ودفع قيمة هذه المساعدات للدولة بالليرة وبسعر المنصّة. وإذا أضفنا دولارات المساعدات الانسانيّة التي صار يصادرها المصرف المركزي ويدفع قيمتها بالليرة بالطريقة نفسها، بعد أن كانت تصادرها المصارف سابقاً، فستكون هذه الدولارات كافية لتعويض ما ينفقه مصرف لبنان سنوياً لتأمين حاجة مؤسسات الدولة للعملة الصعبة.

الدولة آخر من يعلم
من حيث المبدأ، كان من المفترض أن تكون الحكومة اللبنانيّة هي من يدير هذا الملف بأسره، خصوصاً أنّه يُعنى بما يرد إلى خزينتها من مساعدات ومداخيل بالعملة الصعبة، في مقابل ما تشتريه الحكومة من دولارات من مصرف لبنان لتمويل نفقاتها الملحّة. وهذه المسألة بالتحديد تنطوي اليوم على حساسيّة استثنائيّة، خصوصاً كون جانب أساسي من الأزمة يرتبط بشح الدولارات الواردة إلى خزينة الدولة، واستنزاف الاحتياطات التي يمكن استخدامها لدى مصرف لبنان.

لكن كما بدا واضحاً اليوم، فالحكومة اختارت طوعاً الانسحاب من هذه المهمّة، لتكون آخر من يعلم بما يضمره مصرف لبنان تجاه الدولارات الواردة إليها. فوزير التربية والتعليم العالي، وخلال اجتماعه الأخير مع حاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، تبلّغ من الحاكم أن المساعدات التي تقدمها الدول المانحة لوزارته سيتم صرفها بالليرة اللبنانيّة وحسب سعر المنصّة الجديدة، على أن تبقى الدولارات الطازجة بحوزة مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أن الوزير حاول خلال الاجتماع التوصّل إلى تفاهم مع الحاكم يقضي بدفع قيمة هذه المساعدات بالدولار النقدي، كما وردت من الخارج، من دون أن يتمكن من إقناع الحاكم بذلك. باختصار، قرر الحاكم من طرف واحد كيفيّة التصرّف بدولارات الحكومة، وكيفيّة صرفها بالليرة، من دون أن يكون للوزراء المعنيين أي رأي بالمسألة.

أزمة وزارة التربية والتعليم العالي مع المساعدات الخارجيّة، التي يصادر مصرف لبنان دولاراتها، ليست جديدة. إذ لطالما عانت الوزارة من تآكل قيمة المساعدات الواردة إليها نتيجة دفعها بالليرة، ولطالما تقاعست الحكومة عن قصد عن التعامل مع ملف إدارة سيولتها لدى مصرف لبنان، بما فيها إشكالية التمويل الذي يصل إلى وزاراتها من الخارج.

لكن الجديد اليوم، هو اتجاه حاكم مصرف لبنان لتكريس هذه الآليّة كقاعدة يتم تطبيقها على جميع أشكال المساعدات والدولارات الواردة إلى الدولة اللبنانيّة، بمعزل عن مصدر هذه الدولارات ووجهتها. وبذلك، يصبح التهام دولارات الدولة اللبنانيّة أحد مصادر العملة الصعبة التي يغذّي بها مصرف لبنان احتياطاته، والتي يمكن استعمالها لاحقاً من قبل المصرف المركزي وفقاً لتصوّرات ومشيئة الحاكم وحده، من دون تدخّل من قبل السلطة التنفيذيّة.

كتلة ضخمة من الدولارات
حين نتحدّث عن الدولارات التي ترد إلى الدولة اللبنانيّة من المساعدات الخارجيّة، فمن الأكيد أننا نتحدّث عن كتلة كبيرة من السيولة التي تتوزّع على عدد من الوزارات. فالقطاع الصحّي وحده مثلاً، استفاد خلال العام الماضي من أكثر من مئة مليون دولار من المساعدات التي وردت من جهات دوليّة مختلفة، كالبنك الدولي ومنظمة الصحّة العالميّة وغيرهما. أما قيمة المساعدات التي وردت إلى القطاع التعليمي فبلغت خلال سنة 2020 نحو 37 مليون دولار أميركي، مقابل نحو 76 مليون دولار من المساعدات التي استهدفت تعزيز الأمن الغذائي. كما يُضاف إلى هذه الأرقام كمية ضخمة من السيولة التي حصل عليها النازحون من خلال المنظمات غير الحكوميّة والهيئات الإنسانيّة، من دون العبور بمؤسسات الدولة رسمياً، والتي يقوم مصرف لبنان حالياً بدفعها بالليرة اللبنانيّة، بعد الاحتفاظ بالدولارات الواردة من الخارج.

في الخلاصة، إذا احتسبنا كامل حجم السيولة التي وردت خلال العام الماضي كمساعدات لمؤسسات الدولة والجمعيات الأهليّة معاً، والتي يمكن لمصرف لبنان أن يستحوذ عليها وفقاً للآليّة الجديدة، فستبلغ قيمة هذه الأموال ما يقارب 1.6 مليار دولار أميركي. الاستثناء الوحيد هنا، هو الأموال التي سترد إلى شبكة الحماية الاجتماعيّة المخصصة للأسر الأكثر فقراً، والتي تبلغ قيمتها 246 مليون دولار. إذ يبدو أن البنك الدولي، الجهة الممولة للمشروع، اشترط على الدولة اللبنانيّة دفع قيمة هذه المساعدات بالدولار النقدي، لتفادي أي اقتصاص من قيمة المساعدات.

بمعنى آخر، تبلغ قيمة الدولارات التي يمكن أن يلتهمها مصرف لبنان، من أموال المساعدات الخارجيّة الواردة للدولة والنازحين، نحو 1.3 مرّات قيمة ما باعه مصرف لبنان من دولارات للدولة من احتياطاته خلال العام الماضي، لتمويل عقودها ونفقاتها الملحّة.

ما علاقة قانون الكابيتال كونترول؟
بخلاف ما يعتقد كثيرون، لم يصبح قانون الكابيتال كونترول من دون جدوى عمليّة، حتّى بعد أن جرى تهريب الجزء الذي يمكن تهريبه من سيولة المصارف ومصرف لبنان. فهذا التشريع، كان يفترض أن يحدد طريقة إدارة السيولة المتوفّرة لدى مصرف لبنان بالعملة الصعبة، بما فيها تلك التي ترد من الخارج للدولة أو الجمعيات أو غيرها من الأطراف. كما كان يفترض أن يحدد كيفيّة الإنفاق من هذه السيولة، وطريقة التنسيق بين الحكومة ومصرف لبنان لتحديد الأولويات التي يمكن التعامل معها في كل مرحلة. ببساطة، كان من الممكن أن يكون القانون باباً لتنظيم هذا الملف بأسره، بدل أن تظل إدارته خاضعة لاستنسابيّة حاكم مصرف لبنان وحده، بمعزل عن أي خطة واسعة متفق عليها مع الحكومة.

بخلاف ذلك، لم تنص مسودّة مشروع قانون الكابيتال كونترول على أي من هذه الأمور. لا بل تركت المسودّة عن عمد مسألة إدارة السيولة، بما فيها تلك التي ترد لصالح الدولة اللبنانيّة، أو تلك التي يوفّرها المصرف المركزي لنفقات الدولة، من دون أن يتم التطرّق إليها، في محاولة واضحة لترك هذا الملف بمعزل عن أي رقابة أو ضوابط. وفي كل الحالات، مازالت المسودّة نفسها تائهة في دهاليز لجان مجلس النواب، بانتظار الإفراج عنها وإحالتها للجان المشتركة. في الواقع، يشير كثيرون اليوم إلى أن تأخير إقرار هذا القانون بات متعمّداً، لترك هذه الثغرة مفتوحة على مصراعيها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها