الإثنين 2021/09/20

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

"التدقيق الجنائي" الجديد: العقد السرّي يخفي مسرحية باهتة

الإثنين 2021/09/20
"التدقيق الجنائي" الجديد: العقد السرّي يخفي مسرحية باهتة
تعديل نطاق التدقيق والحد منه، للتقليل من قيمة ما سيكشفه من أرقام وحقائق (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

يوم دخل التدقيق الجنائي إلى قاموس الحياة السياسيّة اللبنانيّة، كان هذا المسار إحدى الإصلاحات الصارمة التي تم الدفع باتجاهها، لإعادة ثقة المجتمع الدولي بإدارة الدولة اللبنانيّة لشؤونها الماليّة. لكن وكما تم ترويض المبادرة الفرنسيّة، التي تدرّجت من حكومة مهمّة بوزراء مستقلّين إلى حكومة محاصصة برئاسة ميقاتي، تم كذلك ترويض مسار التدقيق الجنائي بشكل متدرّج، فتحوّل من ملف يستهدف تحديد مسؤوليّات الانهيار وأسباب الخسائر، إلى مسرحيّة باهتة لا يمكن أن يتأمّل منها اللبنانيّون أي شيء يُذكر. التدقيق الجنائي مجرّد مسار آخر انتصرت فيه المنظومة بشقيها السياسي والمالي، تماماً كما انتصرت في جميع المعارك الأخرى منذ بداية الأزمة.

ماذا يخفي العقد السرّي الجديد؟
يوم وقّع غازي وزني عقد التدقيق الجنائي القديم، مع شركة آلفاريز آند مارسال، تمّ نشر العقود على الموقع الرسمي لوزارة الماليّة باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، تماماً كما تمّ نشر عقدي التدقيق المحاسبي اللذين وقعهما الوزير مع شركتي KPMG وأوليفر وايمن. في تلك المرحلة، كان المطلوب من نشر هذه العقود إظهار مسار التدقيق كعمليّة شفّافة، من ناحية نطاق العمل المطلوب من الشركات، وما ستظهره عمليات التدقيق الجنائي والمحاسبي من نتائج، بالإضافة إلى موجبات الوزارة ومصرف لبنان في هذا الملف.

لكن كما بات معروفاً اليوم، تعثّر تطبيق عقد التدقيق الجنائي القديم، وانسحبت آلفاريز منه بعد أن امتنع المصرف المركزي عن تزويدها بالمعلومات المطلوبة. وبذلك، جرى فسخ ذلك العقد وترتّب على الدولة اللبنانيّة بند جزائي بقيمة 150 ألف دولار أميركي.

يوم الجمعة الماضي، وقّع وزير الماليّة يوسف خليل عقد التدقيق الجنائي الجنائي الجديد مع شركة آلفاريز. وهو عقد نتج عن مفاوضات شاقّة بين وزارة الماليّة ومصرف لبنان والشركة، لإطلاق عمليّة التدقيق مرة أخرى. في تلك المفاوضات، جرى إعادة تحديد نطاق عمل الشركة، ونوعيّة المعلومات التي سيقوم مصرف لبنان بالإفصاح عنها، بالإضافة إلى ما تريده الدولة اللبنانيّة من نتائج لهذا التدقيق.

لكنّ المسألة الغريبة كانت عدم نشر عقد التدقيق الجنائي الجديد مثلما تمّ نشر العقد السابق. لا بل جرت إحاطة هذا العقد الجديد بسريّة شديدة. إذ لم تتسّرب منه أي نسخة إلى وسائل الإعلام، كما لم تتسرّب التعديلات التي طرأت عليه مقارنةً بالعقد السابق، والتي أفضت إلى توافق الشركة ومصرف لبنان ووزارة الماليّة على المسار الجديد.

فهل تم تعديل نطاق التدقيق في العقد الجديد بما يريح حاكم مصرف لبنان ومن يقف خلفه، وبما يضمن تعاون هؤلاء مع الشركة؟ هل تم التوافق مع الشركة على أهداف جديدة للتدقيق الجنائي، غير تلك التي تم إدراجها في العقد السابق؟ ففي هذه الحالة، ستكون آلفاريز قد وافقت على العودة على أساس مسار مختلف عن المسار القديم، خصوصاً أن نطاق العمل الذي طلبته وزارة الماليّة منها في العقد، هو ما سيحدد طبيعة المسائل التي ستبحث عنها آلفاريز في ميزانيات مصرف لبنان.

باختصار، توحي سريّة العقد بأنه ينطوي على تعديلات أفرغت عمليّة التدقيق الجنائي من جدواها، عبر الحد من نطاق عمل الشركة. كما أن هذه التعديلات ستحول دون البحث عن أسباب الخسائر الفعليّة في ميزانيات مصرف لبنان، خصوصاً أن المماطلة التي عرقلت إطلاق التدقيق منذ أكثر من سنة، أشارت إلى أن هناك ما يحرص معظم أقطاب الحكم على إخفائه في هذه الميزانيات. ومن الناحية العمليّة، لا يمكن تفسير تسهيل عمليّة التدقيق الجنائي اليوم من قبل مصرف لبنان وسائر أقطاب السلطة، إلا بارتياحهم لنطاق عمل الشركة الجديد، المنصوص عنه في هذا العقد السرّي.

أما من ناحية شركة آلفاريز، فلا يوجد ما يدفعها لرفض تسوية كهذه، طالما أنّها تلتزم بنطاق العقد الموقّع بينها وبين عميلها الذي يطلب هذا التدقيق، أي الدولة اللبنانيّة. وإذا كانت الدولة اللبنانيّة تطلب اليوم تدقيقاً جديداً بأهداف مختلفة أو محدودة، بخلاف العقد السابق، فبإمكان آلفاريز أن تمتثل لذلك، خصوصاً إذا كانت هذه التسوية تمتلك غطاء أوسع على المستوى الدولي.

يوسف خليل وتضارب المصالح
بالإضافة إلى سريّة العقد الجديد، وما يمكن أن يخفيه، ثمّة سبب آخر يدفعنا للاعتقاد بأن هذه العمليّة ستكون مجرّد مسرحيّة بعيدة عن كل أصول عالم التدقيق. فمن الناحية العمليّة، يفترض أن يكون وزير الماليّة هو الشخص المسؤول عن تطبيق عقد التدقيق الجنائي بالنيابة عن الدولة اللبنانيّة، بصفته الوزير الوصي على مصرف لبنان في الحكومة. ومن هذا الموقع، يفترض أن يقوم الوزير بتوجيه الشركة خلال مرحلة التنفيذ، وبمراقبة عملها. كما يفترض بالوزير أن يقدّر كفاية التدقيق خلال كل مرحلة من مراحل العمل، أو أن يطلب التوسّع في مسائل معيّنة إذا وجد ضرورة لذلك.

لكن وزير الماليّة، الذي يفترض أن يقوم بكل ذلك، ليس سوى الشخص الذي شغل منصب مدير العمليات الماليّة في مصرف لبنان طوال السنوات الماضية، أي المسؤول الذي أشرف على جميع العمليات المرتبطة بالهندسات الماليّة وتدخلات مصرف لبنان في الأسواق، بالإضافة إلى إدارة عمليات إقراض المصارف ومنحها التسهيلات الماليّة. بمعنى آخر، لم يكن يوسف الخليل سوى ذراع حاكم مصرف لبنان التي أشرفت على أكثر الملفات حساسيّة، وأشدها ارتباطاً بموضوع الخسائر المتراكمة في مصرف لبنان. وإذا كان هناك من عمليات يفترض أن يتم الإمعان بالتدقيق فيها، فهي العمليات التي قام خليل بتنفيذها بإشراف رياض سلامة.

وبذلك، سيكون على يوسف خليل أن يشرف على عمليّة تدقيق مالي تستهدف عمله المديد بالذات، وهذه المسألة تُعتبر من المحرمات في العلوم الماليّة، لكونها تُنطوي على تضارب كبير في المصالح. وفي كل الحالات، لن يكون من مصلحة يوسف الخليل أن يوجّه الشركة نحو التعمّق في أي من المسائل الحسّاسة، التي يمكن أن تخفي ارتكابات حصلت خلال تولّيه مسؤوليّة إدارة العمليات الماليّة لمصرف لبنان.

نفاد مهلة رفع السريّة المصرفيّة
المهلة المنصوص عنها في قانون رفع السريّة المصرفيّة لغايات التدقيق الجنائي، الذي ستستفيد منه شركة آلفاريز للحصول على المعلومات من مصرف لبنان، يفترض أن تنتهي بحلول نهاية العام الحالي. وهكذا، وبعد أن جرى حرق تسعة أشهر من هذه المهلة في عمليات المماطلة، لم يتبقَّ لشركة آلفاريز إلا نحو ثلاث أشهر وأسبوع لإنجاز عملها في المصرف المركزي. وهذه الفترة بالكاد تكفي لإنجاز التقرير الأولي، الذي يعطي صورة عامّة عن المسائل التي طلب العقد التدقيق فيها، من دون الغوص في تفاصيل هذه المسائل. ولهذا السبب، لن تكفي المدة المتبقية من مهلة رفع السريّة المصرفيّة لإنجاز أي تدقيق جدّي مفصّل، إلا إذا قام المجلس النيابي خلال الفترة المقبلة بتمديد هذه المهلة.

ما يجري في ملف التدقيق الجنائي يوحي بأن تسهيل هذا المسار جاء كجزء من تسوية أكبر، جرى بموجبها تعديل نطاق التدقيق والحد منه، للتقليل من قيمة ما سيكشفه من أرقام وحقائق في ميزانيات مصرف لبنان. وكجزء من هذه التسوية أيضاً، جرى استنفاد مهلة رفع السريّة المصرفيّة لأقصى حد، مع إبقاء المدة المطلوبة لإنجاز التقرير الأولي فقط، للحؤول دون المضي بأي تدقيق أبعد من هذا التقرير الأولي. وبوجود يوسف الخليل، من المستبعد أصلاً أن تسعى وزارة الماليّة إلى طلب التعمّق في أي من المسائل التي سيكشفها التقرير الأولي. ببساطة، لقد انتهى التدقيق الجنائي قبل أن يبدأ، وما تبقى ليس سوى مخرج للتخلّص من هذا الملف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها