السبت 2021/09/11

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

لعبة السحوبات بالليرة: تضخيم الخسائر بانتظار "الهيركات" الكبير

السبت 2021/09/11
لعبة السحوبات بالليرة: تضخيم الخسائر بانتظار "الهيركات" الكبير
الخسائر المخفيّة بميزانيات المصرف المركزي ارتفعت بنحو 24.38 مليار دولار خلال سنة ونصف السنة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

منذ شهر نيسان 2020، دخل مصرف لبنان لعبة دفع الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وفق أسعار صرف اعتباطيّة لا تحددها سوى استنسابيّة الحاكم نفسه. بدأ المسار بالتعميم 151، الذي تم التمديد له مرّتين متتاليتين، وسط حديث يدور اليوم عن احتمال رفع سعر الصرف المعتمد لتطبيقه، والمحدد اليوم عند مستوى 3900 ليرة للدولار. ومنذ شهر تمّوز، أدخل مصرف لبنان إلى حلبة السحوبات التعميم 158، الذي يستخدم المبدأ نفسه، ولو وفق سعر صرف آخر. وينص هذا التعميم على تأمين نصف قيمة السحوبات الشهريّة للمودع بالليرة وفق سعر صرف 12,000 ليرة للدولار.

منذ البداية، حذّر وفد صندوق النقد لبنان من هذه اللعبة الخطيرة. وخطورة لعبة السحوبات بالليرة لا تنحصر بحجم النقد الذي يتم ضخّه بالليرة في الأسواق، والذي سينعكس على شكل تدهور في سعر صرف العملة المحليّة. ولا ينحصر كذلك بحجم الاقتصاص من قيمة أموال المودع، الناتج عن الفارق ما بين سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية وسعر الصرف المعمول به للسحوبات.

في الواقع، ثمّة ما هو أخطر من ذلك كلّه: لعبة السحوبات بالليرة ليست سوى تضخيم لحجم الخسائر المتراكمة والمخفيّة في ميزانيات المصرف المركزي، وهي خسائر سيدفع ثمنها المودعون وسائر المقيمين عاجلاً أم آجلاً في أي مسار من مسارات التصحيح المالي.

لعبة إخفاء الخسائر
لفهم خطورة لعبة السحوبات، وعلاقتها بالخسائر المحققة والمخفيّة في ميزانيات رياض سلامة، ينبغي العودة أولاً إلى مسألة بالغة الأهميّة في الطريقة التي يصرّح فيها مصرف لبنان عن أرقامه.

تشير الأرقام إلى أن مصرف لبنان مازال مديناً بقيمة تتجاوز 76 مليار دولار بالعملة الصعبة للمصارف التجاريّة، وهي أموال وظّفتها المصارف في المصرف المركزي من أموال المودعين. وكما هو معلوم، لم يتبقّ من هذه الأموال سوى ما يقارب 14.5 مليار دولار اليوم، بالإضافة إلى نحو 5.03 مليار دولار سلّفها مصرف لبنان بالعملة الصعبة للدولة، عبر شراء سندات اليوروبوند. الفارق الشاسع ما بين القيمتين، أي ما بين ما وظفته المصارف لدى مصرف لبنان بالعملة الصعبة وما تبقى من هذه الأموال، اختفى في عمليات تثبيت سعر الصرف والدعم وتمويل التحويلات إلى الخارج، وخصوصاً في المرحلة التي تلت الهندسات الماليّة سنة 2016.

لكن وعوضاً عن تسجيل هذا الفارق كخسائر تم تحقيقها، تمهيداً لمعالجاتها، عمد مصرف لبنان طوال السنوات الماضية إلى الإبقاء على هذه القيمة كموجودات وهميّة، تحت البند الذي اشتهر مؤخّراً بعد انكشافه: "الموجودات الأخرى".

هنا برزت إشكاليّة أخرى أمام سلامة. فتدهور سعر صرف الليرة سيعني تلقائياً زيادة قيمة الالتزامات الكبيرة بالعملة الصعبة، في مقابل قيمة الموجودات التي لم تعد تحتوي إلّا على حجم محدود من السيولة بالعملة الصعبة. أما الحل، فكان خدعة محاسبيّة أخرى لإخفاء الخسائر: الاستمرار باحتساب قيمة الالتزامات بالليرة وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم. هكذا، أخفى سلامة الخسائر مرتين: أولاً عبر عدم التصريح بقيمة الأموال التي اختفت من الميزانيات، فظلّ يحتسبها كموجودات أخرى. وثانياً عبر عدم التصريح عن قيمة التزاماته الفعلية للمصارف، عبر الاستمرار باحتسابها وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم.

السحوبات تضخّم الخسائر
في الأساس، لا يوجد في مبادىء المحاسبة أو العلوم الماليّة شيء يمكّن أحداً من خلق قيمة ما من العدم. فحتّى الأموال التي يقوم المصرف المركزي بطبعها وتداولها، تسجّل في الميزانيات كإلتزامات مترتّبة ديوناً على المصرف. في يومٍ ما، سيكون بإمكان حامل الأوراق النقديّة أن يعيد هذه الأوراق إلى النظام المصرفي، وبالتالي مصرف لبنان، لسداد دين ما، أو تكوين وديعة ما، وهو ما يحتّم إبقاء قيمتها في الميزانيات إلى أن تعود إلى مصرف لبنان.

عند قيام المودع بسحب قيمة وديعته المدولرة بالليرة من المصرف وفق سعر صرف 12,000 ليرة للدولار، كما في التعميم 158، أو 3900 ليرة للدولار كما في التعميم 151، يقوم المصرف تلقائياً بسحب قيمة موازية من توظيفاته لدى مصرف لبنان، بالطريقة نفسها وبسعر الصرف نفسه. وبذلك، يكون مصرف لبنان قد استبدل في ميزانياته قيمة الوديعة المسجّلة كدين وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، بدين أكبر بأضعاف، وهو قيمة النقد الذي تم ضخه في السوق، الذي جرى دفعه وفق أسعار الصرف الجديدة والأعلى المعتمدة لهذه السحوبات. وبذلك، تتضاعف قيمة التزامات مصرف لبنان نتيجة هذه السحوبات.

كيف يعوّض مصرف لبنان هذا الفارق الضخم الذي يؤدّي إلى تضخّم التزاماته؟ مرّة جديدة: عبر إخفاء هذه الخسائر، وتحديداً عبر نفخ قيمة بند "الموجودات الاخرى"، الذي لا يمثّل سوى موجودات وهميّة غير موجودة في أي مكان غير دفاتر رياض سلامة.

لتأكيد هذا النمط من العمليات الماليّة، وتحديداً من جهة علاقة سداد الودائع المدولرة بالليرة والخسائر المخفيّة في مصرف لبنان، يمكن العودة إلى قيمة بند الموجودات الأخرى في ميزانيات المصرف. فمنذ أن بدأ مصرف لبنان بتطبيق التعميم 151، في نيسان 2020 الماضي، ارتفعت قيمة هذا البند من 30.79 مليار دولار إلى 55.17 مليار دولار اليوم، ما يعني أن الخسائر المخفيّة في ميزانيات المصرف المركزي ارتفعت بنحو 24.38 مليار دولار بين الفترتين، أو بنسبة 79%.

تضخيم الهيركات الآتي
في المبدأ، لا يمكن التعامل مع هذا النوع من الخسائر الضخمة في الميزانيّات إلّا وفقاً لشكل من أشكال الهيركات على الودائع. في بداية الأزمة، كان بالإمكان تحييد أكثر من 90% من المودعين من هذا النوع من الإجراءات، عبر خطّة تكفل تسديد أموالهم من جهة، والتعويض على كبار المودعين، من خلال الحصول على أسهم في المصارف نفسها. أما اليوم، فهذا النوع من الحلول بات متعذّراً بالنظر إلى الفجوات التي تضخّمت طول الفترة الماضية في الميزانيات. مع الإشارة إلى أن صغار المودعين تحمّلوا أساساً نسبة كبيرة من الاقتصاص من قيمة ودائعهم، من خلال الفارق الكبير بين سعر صرف الدولار الفعلي في السوق السوداء وأسعار الصرف التي تم العمل بها للسحوبات النقديّة بالليرة اللبنانيّة.

المستفيد من كل هذه الألاعيب المحاسبيّة لم يكن سوى كبار النافذين في النظام المصرفي، الذين تمكنوا بفضل هذه الأساليب من تفادي استحقاق تحديد الخسائر بوضوح والتعامل معها. واليوم، يجري التداول في مصرف لبنان ببدائل مختلفة للتخلّص من الفجوات الموجودة في الميزانيّات، من قبيل تحويل نسبة كبيرة من الودائع الموجودة بالعملات الأجنبيّة إلى ودائع بالليرة اللبنانيّة، وفقاً لأسعار صرف متعددة، وبشكل متدرّج، وبالتالي تحميل الكلفة إلى عموم المقيمين في لبنان من خلال التدهور الذي سينتج في سعر صرف الليرة اللبنانيّة. في النتيجة، لم يكن كل ما جرى سوى معركة توزيع الخسائر، خسرها أصحاب الدخل المحدود.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها