السبت 2021/07/17

آخر تحديث: 11:29 (بيروت)

الأحزاب تتأهّب لنهب 860 مليون دولار من صندوق النقد!

السبت 2021/07/17
الأحزاب تتأهّب لنهب 860 مليون دولار من صندوق النقد!
الجهات الدولية تبحث بسبل ضبط طريقة إنفاق وإدارة هذه الأموال (الأرشيف، عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

من المفترض أن يكون لبنان على موعد مع ما يقارب 860 مليون دولار بحلول شهر أيلول المقبل، وهي حصّة البلاد من برنامج صندوق النقد لإجراء تخصيص عام لحقوق السحب، الخاصّة لجميع الدول الأعضاء في الصندوق. العمليّة ستعني ببساطة حقن الاقتصاد العالمي بسيولة تقارب قيمتها 650 مليار دولار، التي ستتوزّع على جميع هذه الدول بنسب متفاوتة، لتحفيز معدلات النمو الاقتصادي، بالتوازي مع فتح الأسواق، بعد انحسار موجات وباء كورونا. مع العلم أن برنامج توزيع حقوق السحب هذا يُعد الأكبر على الإطلاق منذ تأسيس الصندوق، فيما يُعد الأوّل منذ عام 2009، يوم قام الصندوق بتخصيص حقوق سحب أصغر حجماً للمساهمة بإنعاش الاقتصادات العالميّة بعد الأزمة الماليّة العالميّة.

في حالة لبنان مازال الغموض سيّد الموقف، إذ لم يُحسم الجدل بخصوص كيفيّة إنفاق المبلغ أو إدارته بعد الحصول عليه، فيما يبدو أن الكثير من القوى السياسيّة تراهن على هذه الأموال لتمويل مشاريع "الإعاشة" القادرة على شراء الذمم قبيل الانتخابات النيابيّة، ومنها مشروع البطاقة التمويليّة التي تُرك قانونها من دون آليات رقابيّة واضحة ومحكمة لهذه الغاية بالتحديد. علماً أن مشروع البطاقة تم تحييده عن أي قروض دوليّة أخرى لفقدانه هذه الآليات.

أما الجهات الدوليّة المعنيّة بالملف اللبنانيّة، وخصوصاً فرنسا، فباشرت التداول بالوسائل القادرة على فرض شروط إصلاحيّة معيّنة على لبنان، قبل منحه هذه السيولة. فالمجتمع الدولي غير مهتم بتوفير أي تمويل يسمح بتجديد سيطرة أقطاب الحكم على المجتمع اللبناني، طالما أن تنفيذ أبسط الإصلاحات مازال متعذراً، بسبب العرقلة المتعمّدة التي تجري من قبل جميع القوى السياسيّة الممسكة بمقاليد الحكم.

نظام حقوق السحب: احتياط عالمي للسيولة
تعود نشأة نظام حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد إلى العام 1970، في الحقبة التي كانت فيها الأسواق الماليّة العالميّة مازالت تسير على قواعد نظام بريتون وودز الذي تم اعتماده منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، والذي كرّس الدولار والذهب كإحتياطات تخزنها جميع المصارف المركزيّة وتستعملها لتحديد أسعار عملاتها وتثبيتها. ولأن جميع الدول خشيت من عدم كفاية هذه الاحتياطات، بالتوازي مع توسّع الأسواق والتداولات الماليّة الدوليّة، وتزايد حاجة الدول لخلق المزيد من النقد، تم استحداث نظام حقوق السحب الخاصّة، لتكون هذه الحقوق احتياطات إضافيّة من السيولة، التي يمكن سحبها عند الحاجّة من قبل الدول الأعضاء.

بعد سنة 1971، تم إلغاء نظام بريتون وودز، وجرى تعويم العملات العالميّة لتصبح قيمتها محددة بحسب قواعد العرض والطلب، ما عنى عملياً انتفاء الحاجة لمفهوم الاحتياطات التي تثبّت سعر الصرف أو تحدده. ورغم ذلك، استمر الصندوق باعتماد نظام حقوق السحب الخاصّة كمصدر سيولة يمكن وضعه تحت تصرّف الدول الأعضاء عند الحاجة، وتحديداً عندما يجد الصندوق حاجة ماسّة لضخ السيولة في الأسواق العالميّة. لكنّ عمليّة تخصيص حقوق السحب ظلّت محاطة بقدر كبير من الحذر في أنظمة عمل صندوق النقد، إذ يحتاج إقرار هذه العمليّة إلى موافقة 85% من إجمالي الأصوات التي تمتلكها الدول الأعضاء في الصندوق، علماً أن قيمة الأصوات تتفاوت بين دولة وأخرى.

حقوق سحب ما بعد كورونا
بعد انحسار وباء كورونا، وانتهاء حالات الإقفال الشامل في معظم الأسواق العالميّة، وعودة معدلات الطلب على السلع والخدمات إلى مستويات قريبة لمستويات ما قبل الأزمة، بدأت معدلات النمو الاقتصادي حول العالم بالارتفاع بشكل سريع وخلال فترة قصيرة جداً. لكنّ خبراء الصندوق أدركوا مباشرةً أنّ هذه الانتعاشة أتت أسرع من قدرة هذه الأسواق على توفير العملة الصعبة، لمواكبة وتيرة التبادلات التجاريّة المتسارعة، خصوصاً أن هذه التطورات جاءت بعد أشهر من الركود الاقتصادي غير المسبوق على مستوى العالم. ولذلك، كان من الواضح أن الأسواق بحاجة إلى حقنة سريعة من السيولة لتواكب هذا النمو المستجد، كي لا يلجم نقص السيولة معدلات النمو الاقتصادي على المدى الأطول.

لكل هذه الأسباب، تم طرح اقتراح إجراء أكبر تخصيص عام لحقوق السحب على المجلس التنفيذي للصندوق، بمبلغ تقارب قيمته 650 مليار دولار أميركي. وبعد موافقة المجلس على المقترح، تمّت إحالته إلى مجلس محافظي الصندوق، حيث يُفترض أن ينال المشروع على أكثر من 85% من الأصوات ليدخل حيّز التنفيذ، بحلول نهاية شهر آب أو بداية شهر أيلول كحد أقصى. ووفقاً لأنظمة الصندوق الداخليّة، يُفترض أن يتم توزيع حصص السحب على كل دولة من الدول الأعضاء بعدد يتناسب مع الحصص التي تملكها هذه الدولة في الصندوق، ما يبرر حصول لبنان على حصص بقيمة تقارب 860 مليون دولار.

لبنان: سيولة لشراء الأصوات؟
من حيث المبدأ، يؤكّد جميع الخبراء بأنظمة عمل صندوق النقد أن حقوق السحب تُعد حقاً مكتسباً للدول المعنيّة بها. ما يعني أن الحصول على هذه الأموال غير خاضع لشروط إصلاحيّة كتلك التي طُلب من لبنان تطبيقها للدخول في برنامج قرض مع الصندوق. ولعلّ هذه الحقيقة بالتحديد هي ما يفسّر حماسة القوى السياسيّة اللبنانيّة لتأجيل التعامل مع ملف تأمين السيولة للبطاقة التمويلية، بانتظار تأمين تمويلها من حقوق السحب الخاصّة في شهر أيلول، بدل تمويلها من قروض أو منح أخرى يمكن أن تفرض شروطاً تتعلّق بنزاهة آليات توزيع هذه البطاقة.

بمعنى آخر، يبدو أن القوى السياسيّة تنتظر منذ الآن فرصة الحصول على هذه الأموال على أعتاب الانتخابات النيابيّة، بهدف استخدامها لتمويل عمليّة شراء ولاء الناخبين، خصوصاً في ظل تراجع شعبيّة الغالبيّة الساحقة من هذه الأحزاب. علماً أن هذه السيولة تكتسب أهميّة استثنائيّة بالنسبة للأحزاب المهيمنة على الدولة في هذه المرحلة، في ظل وقف التوظيفات في القطاع العام، وعدم قدرة الدولة على تمويل أي مشاريع خدماتيّة في المناطق، ما يحرم الأحزاب من أبواب "التنفيعات" التقليديّة التي كان يتم استخدامها قبل حصول الانهيار المالي.

بالإضافة إلى هذا التوجّس، ثمّة مخاوف تتعلّق بطريقة إدارة هذه السيولة بغياب قانون الكابيتال كونترول. فالأموال يُفترض أن يتم إيداعها لدى المصرف المركزي، على أن تشرف وزارة الماليّة على إنفاقها وفقاً لسقوف الاعتمادات المحددة في الموازنة العامّة، أو القوانين الأخرى التي يقرها المجلس النيابي. وفي هذه الحالة، تمتد لائحة التساؤلات المشروعة: هل سيتم ترك الدولارات لمصرف لبنان، على أن تقوم الحكومة بالإنفاق مقابل قيمتها بالليرة اللبنانيّة كما يجري في العادة؟ وفي هذه الحالة، أي ضوابط سترعى طريقة استعمال هذه الدولارات من قبل المصرف المركزي؟ وإذا تم استعمال هذه السيولة لتمويل البطاقة التمويليّة، هل سيتم إيداع الأموال بالبطاقة بالليرة اللبنانيّة كما يطالب اليوم حاكم مصرف لبنان؟ وكيف سيؤثّر ذلك على قيمة العملة المحليّة في السوق الموازية؟

الضغط الدولي
بسبب كل هذه المخاوف، بدأت عدّة جهات دوليّة بالبحث عن السبل التي يمكن أن تضبط طريقة إنفاق وإدارة هذه السيولة، وتحديداً من جهة فرنسا، التي تراقب عن قرب تطورات المشهد المالي اللبناني. فالحصول على حقوق السحب الخاصة من ناحية صندوق النقد مسألة محسومة من الناحية المبدئيّة، وحتّى مسألة وجود حكومة تصريف أعمال لن تؤثّر في أحقية لبنان بهذه الأموال. لكن المباحثات التقنيّة تتركّز حول إمكانية عرقلة تحويل حقوق السحب نفسها إلى سيولة بالعملة الصعبة، أو تحويل هذه الأموال لاحقاً إلى الدولة اللبنانيّة، من أجل الضغط لتحقيق إصلاحات محددة، قبل تمكين الدولة اللبنانيّة من استعمال هذه الأموال، أو على الأقل فرض ضوابط معيّنة على طريقة استعمال هذه الأموال. مع الإشارة إلى أن هذه الجهات الدوليّة باتت تخشى أن تكون هذه الأموال وسيلة تشتري من خلالها السلطة في لبنان بعض الوقت، قبل أن يُفرض عليها تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها دوليّاً.

في كل الحالات، أمام لبنان شهر ونصف الشهر قبل أن يُنجز صندوق النقد المسار الذي يشرّع تخصيص حقوق السحب هذه، بينما يبدو من الواضح أن جميع الجهات السياسيّة المحليّة بدأت باكراً بترتيب أوراقها، استعداداً لكل المناوشات التي ستسبق إنفاق هذه الأموال، بدلالة السجال السريع الذي حصل في آخر جلسات المجلس النيابي حول الموضوع. في الواقع، كان من المفترض أن يكون هذا الموضوع بالتحديد محل دراسة في المجلس النيابي اليوم، لصياغة مشروع قانون يحدد للحكومة طريقة إدارة وإنفاق هذا المبلغ بشكل شفاف، في ظل حالة الانهيار التي تعيشها البلاد. لكنّ ابتعاد الجميع عن مناقشة هذه التفاصيل في العلن، مجرّد إشارة إلى أنّ طريقة إدارة هذه الأموال لن تتسم بالشفافيّة، ولن تصب في المحصّلة في مصلحة غالبيّة اللبنانيين من محدودي الدخل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها