الأحد 2021/06/06

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

سلامة يتواطأ مع المصارف لإخفاء خسائر القروض المتعثّرة

الأحد 2021/06/06
سلامة يتواطأ مع المصارف لإخفاء خسائر القروض المتعثّرة
تبلغ قيمة القروض المتعثرة نحو 15.22 مليار دولار في نهاية العام 2020 (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

في زحمة الأحداث المتعلّقة بأزمة الودائع المصرفيّة وآليات السحب منها، مرّ من دون الكثير من الاهتمام خبر إصدار التعميم الوسيط رقم 584 من قبل حاكم مصرف لبنان، والذي قضى بتمديد مهلة عدم تخفيض تصنيف المقترضين، المتأثرين سلباً نتيجة تفشي وباء كورونا حتّى نهاية الشهر الحالي. وهي مهلة كان يفترض أن تكون قد انتهت آخر العام الماضي. حكاية "مهلة عدم التصنيف" التي جرى تمديدها الآن، والتي نشأت أساساً بموجب تعميم سابق صدر في شهر آب من السنة الماضية تحت الرقم 567، تلخّص نمط إدارة الأزمة الماليّة، من ناحية التحايل بكل الطرق الممكنة لإخفاء الخسائر المصرفيّة وتأجيل التعامل معها، ولو كان ذلك من خلال مخالفات فاقعة للمعايير المحاسبيّة البديهيّة التي يفترض أن تتبعها المصارف.

عملياً، نحن أمام سلسلة تعاميم لا تهدف إلا إلى تفادي التعامل مع الفجوة الناتجة عن تعثّر جزء كبير من القروض المصرفيّة، عبر تأجيل تكوين المؤونات المطلوبة لذلك من أرباح المصارف، في حين أن هذه التعاميم لا تفيد أو تضر المقترض في شيء، في ظل سريان قانون تعليق المهل. وهذه الحكاية بالتحديد، تبدأ من مرحلة التفاوض على خطة الحكومة السابقة، وتمر بتعاميم المصرف المركزي خلال العام الماضي، وصولاً إلى التعميم الأخير الذي صدر الأسبوع الماضي لتمديد مهلة عدم تصنيف القروض المتعثرة.

خسائر مخفيّة
تمثّل قروض القطاع الخاص المتعثّرة جزءاً أساسياً من مجمل الخسائر المصرفيّة التي يفترض أن يتم التعامل معها في المستقبل، لتمكين القطاع المصرفي من العودة إلى العمل المنتظم. لجنة الرقابة على المصارف، كانت قد قدرت أن تبلغ قيمة هذه القروض المتعثرة نحو 15.22 مليار دولار في نهاية العام 2020، من أصل محفظة قروض إجماليّة ممنوحة للقطاع الخاص قارب مستواها 49.9 مليار دولار خلال العام الماضي. بمعنى آخر، ووفقاً لتقدير اللجنة، تقارب نسبة القروض المتعثّرة مستوى 30.5% من إجمالي القروض. وهي نسبة مرتفعة، لا يمكن أن يتخطى القطاع المصرفي أزمته من دون معالجتها. علماً أن هذه النسبة يفترض أن تكون ارتفعت اليوم بعد خمسة أشهر من نهاية العام 2020، بالتوازي مع تفاقم جميع المؤشرات الاقتصاديّة في البلاد.

لهذه الأسباب، أصرّت شركة لازارد عند عملها على خطة الإصلاح المالي خلال العام الماضي، على ضم هذه القروض المتعثّرة إلى مجمل الخسائر التي استهدفت التعامل معها في الخطة. أمّا  المصارف، فاستهدفت منذ البداية تقليص حجم الخسائر التي سيتم الاعتراف بها ومعالجتها، ومنها تلك المتعلّقة بالقروض المتعثّرة، ولو كان ذلك على حساب تصحيح وضعها المالي. ولذلك، خاض اللوبي المصرفي في المجلس النيابي معركة على حجم القروض المتعثّرة التي سيتم لحظها في الخطّة، كجزء من معركته ضد الخطة ككل. ومع سقوط الخطة، سقط مشروع تحديد ومعالجة خسائر قروض القطاع الخاص المتعثّرة كلياً وذهب أدراج الريح.

أهميّة المؤونات لمعالجة خسائر تعثر القروض
بمعزل عن خطة الحكومة للتصريح عن الخسائر ومعالجتها، ثمّة معايير محاسبيّة عالميّة يفترض أن تمتثل لها المصارف عند التصريح عن ميزانيّاتها، وخصوصاً في ما يخص حجم المخاطر الموجودة في ميزانياتها، وطريقة التعامل معها. بالنسبة للقروض الممنوحة، يفترض أن تقوم المصارف بتتبّع أوضاع المقترضين دوريّاً، على أن تقوم باقتطاع مؤونات من أرباحها حسب حجم المخاطر المرتبطة بهذه القروض، وحسب احتمال تعثرها. أما في حالة القروض التي باتت في حكم المتعثرة كلياً، فيفترض أن يتم اقتطاع مؤونات من أرباح المصرف توازي كامل قيمة هذه القروض، لتحمّل الخسارة الناتجة عن التعثّر في المستقبل.

من هذه الزاوية بالذات، يمكن فهم هذه المؤونات كضمانة للمودع، تؤكّد أن المصرف وأصحابه يدفعون من أرباحهم لمعالجة الفجوات الناتجة عن تعثّر القروض، والتي جرى منحها من أموال المودعين أساساً. مع العلم أن الأصول المصرفيّة تقضي أيضاً بتحمّل المساهمين في المصرف أي خسارة، إذا لم تكفِ أرباح المصرف لتكوين هذه المؤونات. ومن هذه الزاوية أيضاً، يمكن فهم عدم حماسة المصارف للتعامل مع ملف القروض المتعثرة عبر تكوين المؤونات مقابلها ومعالجتها، طالما أن هذه المؤونات ستأتي على حساب المساهمين والرساميل المصرفيّة والأرباح التي تغذيها.

التعميم 567: مخالفة المعايير المحاسبيّة
في هذا السياق بالتحديد، جاء في أواخر شهر آب من العام الماضي تعميم مصرف لبنان رقم 567، والذي مكّن المصارف من التملّص من تكوين المؤونات المطلوبة للتعامل مع خسائرها الناتجة عن القروض المتعثّرة، وذلك عبر السماح لها بعدم إعادة تصنيف هذه القروض كقروض متعثّرة من الأساس، حتّى لو توقّف أصحابها عن السداد. أمّا الحجّة، فكانت مراعاة تأثّر المقترضين سلباً بأزمة تفشي وباء كورونا. مع الإشارة إلى أن المقترضين كانوا محميين أساساً من أي إجراءات يمكن أن تتخذها المصارف ضدهم، على خلفية تخلفهم عن الدفع، من خلال قانون تعليق المهل الذي أقره المجلس النيابي. وهو ما يناقض حجّة "حماية المقترضين" التي تم تقديمها لتسويق التعميم.

باختصار، لم يقدّم أو يؤخّر التعميم في وضعية المقترض والحماية الممنوحة له في وجه المصرف، بل حمى الرساميل المصرفيّة من استحقاق تكوين المؤونات فقط. وهو ما يُعد مخالفة فاقعة لجميع معايير الإفصاح المالي التي يفترض أن يحترمها القطاع المصرفي.

في نهاية العام الماضي، كان يفترض أن تكون قد انقضت فترة السماح التي يعطيها التعميم لتفادي التصريح عن القروض المتعثرة وتكوين المؤونات مقابلها. في حين أن التعميم طلب من المصارف دراسة أوضاع المقترضين قبل هذا التاريخ، للتمكن بعده من إعادة تصنيف القروض المتعثّرة وتكوين المؤونات مقابلها من أرباح العام 2020. لكنّ المهلة انقضت، واستفادت المصارف من فترة السماح، من دون أن تبادر المصارف إلى دراسة أوضاع مقترضيها، ومن دون أن تقتطع من أرباحها المؤونات المطلوبة لمعالجة خسائر القروض المتعثّرة كما طلب التعميم. وهنا تؤكّد مصادر مصرفيّة أن تخلّف المصارف عن هذا الاستحقاق، ناتج بالدرجة الأولى عن ضخامة حجم القروض المتعثّرة، وعدم رغبة إدارات المصارف بالتعامل مع هذه الخسائر أو التصريح عنها في الوقت الراهن.

التعميم 584: التجديد للمخالفة
بعد خمسة أشهر على انقضاء المهلة من دون تكوين المؤونات ومعالجة الخسائر، قرر مصرف لبنان منذ أيام إصدار تعميم وسيط جديد حمل الرقم 584، مدد بموجبه مهلة درس ملفات المقترضين حتّى نهاية الشهر الحالي، مسلّماً بذلك بتخلّف المصارف عن انجاز المهمّة بعد المهلة الأولى. أما العبرة من تحديد نهاية المهلة الجديدة في أواخر الشهر الحالي، فهي تمكين المصارف من الضغط على المقترضين مع اقتراب انتهاء فترة تعليق المهل في أواخر الشهر الحالي. كما طلب التعميم الجديد من المصارف تكوين المؤونات من أرباح ميزانيات العام الحالي، بعد أن تخلّفت المصارف عن تكوينها من أرباح العام الماضي، وهو ما طبّع مجدداً فكرة تغاضي المصارف عن الامتثال للمهل التي تحددها تعاميم المصرف المركزي.

اليوم، لا توجد أي مؤشرات تدل على أن المصارف بصدد إنجاز دراسة جميع ملفات قروضها بحلول نهاية هذا الشهر، لإتمام عمليّة إعادة تصنيف القروض لاحقاً، خصوصاً أن عمليّة بهذا الحجم تحتاج إلى ورشة إداريّة وتنظيميّة كبيرة لم تبدأ في المصارف بعد. وبالتالي، فمن الطبيعي أن يواجه مصرف لبنان مجدداً مشكلة عدم امتثال المصارف لهذا التعميم والمهلة المنصوص عليها فيه. وعلى أي حال، من غير المتوقع أساساً أن تبادر المصارف إلى تسهيل هذه العمليّة في القريب العاجل، كون إعادة تصنيف هذا العدد الكبير من القروض سيعني عملياً اقتطاع كمية ضخمة من أرباحها على شكل مؤونات مطلوبة للتعامل مع القروض المتعثرة. وفي حال عدم توفّر الأرباح المطلوبة لذلك، فسيعني ذلك اقتطاع المؤونات من الرساميل الموجودة في النظام المصرفي.

حيل أخرى
في كل الحالات، لم تقتصر الحيل المتعلّقة على مسألة تفادي إعادة التصنيف. فالمصرف المركزي مثلاً سمح للمصارف بإعادة جدولة القروض الممنوحة بالليرة اللبنانيّة، على أن يمنح مقابلها للمصارف قروضاً بالدولار الأميركي ومن دون فوائد. هذا النوع من التعاميم، سمح للمصارف طوال الفترة الماضية بتعويم سيولتها بالدولار الأميركي، ولو كانت هذه السيولة بالدولار المحلي، في مقابل إعادة جدولة قروض ممنوحة أساساً بالليرة اللبنانيّة.

وفي مقابل كل هذه الإشكاليات التي تحيط بخطوات المصرف المركزي الأخيرة، لا يظهر في الأفق أي تصوّر فعلي لكيفيّة معالجة أزمة القروض المتعثرة بشكل جذري، خلال الفترة المقبلة. لا بل يبدو أن المصارف ومصرف لبنان يتعمدان تأجيل التعامل مع هذه المشكلة على النحو الذي تم من خلاله تأجيل كل ما يتعلّق بالخسائر المصرفيّة الناتجة عن الانهيار القائم. أما الكلفة الكبرى لهذا النمط من القرارات، فسيدفعها في النهاية المودع، الذي لن يرى قريباً أي حل جذري لأزمة الخسائر التي تعيق استعادته لودائعه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها