السبت 2021/06/19

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

المصارف تعوّم نفسها بسرقة اللاجئين السوريين وضرب الليرة

السبت 2021/06/19
المصارف تعوّم نفسها بسرقة اللاجئين السوريين وضرب الليرة
مارست المصارف سطواً منظّماً ومتعمداً على أموال المساعدات (الأرشيف، لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease

لا يمكن المرور بخفّة على الأرقام التي كشفتها "رويتز" قبل يومين، والتي أشارت إلى أن ثمّة خسائر بقيمة 250 مليون دولار لحقت ببرامج المساعدات الدوليّة التي تستهدف اللاجئين والمجتمعات الفقيرة في لبنان، نتيجة مصادرة دولارات هذه المساعدات من قبل المصارف، مقابل دفعها للمستفيدين بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف غير منصفة. أهميّة هذه المعطيات تكمن تحديداً في ما تكشفه من عمليات تعويم منظمة لحسابات المصارف في الخارج، على حساب اللاجئين الذين حمّلتهم البروباغندا السياسيّة مسؤوليّة مفاقمة آثار الانهيار الاقتصادي. مع العلم أن سائر المقيمين أيضاً تحملوا كلفة عملية السطو هذه، من خلال أثرها على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، خصوصاً أن هذه العمليات انطوت على خلق إضافي للنقد لدفع قيمة المساعدات بالليرة.

أسلوب السطو المنظّم
منذ حصول الانهيار المصرفي، استمرّت المصارف باستقبال المساعدات الإنسانيّة، الواردة من المنظمات الدوليّة للاجئين السوريين، بالدولار النقدي، في حساباتها في الخارج. لكن وبدل تحويل هذه الأموال إلى لبنان لدفعها للاجئين بالدولار وبقيمتها الفعليّة، عمدت المصارف إلى الاحتفاظ بهذه الدولارات في الخارج. وفي المقابل، كانت تقوم بتحرير جزء من أموالها العالقة لدى مصرف لبنان، لدفع قيمة المساعدات بالليرة اللبنانيّة ووفق سعر صرف المنصّة القديمة (3900 ليرة للدولار الواحد).

النتيجة البديهيّة لهذه العمليّة كانت تحميل اللاجىء خسارة فادحة نتيجة الفارق الشاسع بين سعر الصرف الفعلي في السوق، وسعر صرف المنصّة القديمة. وهذه الخسارة كانت تتسع تدريجيّاً مع اتساع الفارق بين السعرين، فيما يوازي اليوم سعر صرف المنصّة نحو 25% فقط من سعر الصرف الحقيقي في السوق الموازية. مع الإشارة إلى أن مبلغ 250 مليون دولار الذي تحدّثت عنه رويترز يعبّر هنا عن حجم الخسارة الناتجة عن هذه العمليات، أي الفارق بين سعري الصرف، وليس إجمالي حجم الدولارات التي رست في حسابات المصارف نتيجة هذه العمليّة.

في كل الحالات، كان هذا السطو المنظّم متعمّداً ومدروساً من ناحية المصارف. فالمصارف تكمنت بهذه الطريقة من تخفيض حجم حساباتها لدى مصرف لبنان، وبالتالي تخفيض حجم الخسائر الناتجة عن الفارق بين ما وظفته المصارف لدى المصرف المركزي وما تبقى من السيولة بحوزته. وفي الوقت نفسه، كانت المصارف تعوّم حساباتها في الخارج، التي يمكن استخدامها لتهريب المزيد من أموال كبار النافذين إلى خارج النظام المصرفي، أو يمكن الإبقاء عليها لدفع الالتزامات الخارجيّة بالعملة الصعبة، أو حتّى للامتثال لتعاميم مصرف لبنان، التي طلبت من المصارف تكوين أرصدة لدى المصارف المراسلة، في إطار ما عُرف بمسار إعادة رسملة النظام المصرفي. في جميع الحالات، كان النظام المصرفي يعتمد على أموال اللاجئين لتقليل حجم الفجوات الموجودة في ميزانياته.

في كل هذه الأحداث، كان الغائب الأهم هو مصرف لبنان، الذي يفترض أن يكون المسؤول الأول عن وضع التنظيمات الضروريّة لضمان حسن علاقة المصارف مع عملائها. علماً أن استفادة اللاجئين والعائلات الأشد فقراً من هذه المساعدات عبر البطاقات المصرفيّة، يضع هذه الفئات تلقائيّاً في خانة العملاء المستفيدين من الخدمات المصرفيّة، والذين يفترض أن يحرص المصرف المركزي على عدم تعرّضهم لأي إجحاف نتيجة هذا النوع من الحيل المصرفيّة.

على أي حال، كانت المنظمات الدوليّة بدورها غائبة عن المشهد، ولم تمانع إزاء لجوء المصارف إلى هذا النمط من العمليات لدفع قيمة المساعدات، إلى أن التفتت في وقت متأخر إلى هذه الخسائر وبدأت بالتفاوض مع الدولة اللبنانيّة للتوصّل إلى آليّة بديلة للدفع في بداية هذا العام. وهنا تشير مصادر من داخل المنظمات الإنسانيّة العاملة في هذا المجال، إلى أن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، وهما أبرز الجهات المعنيّة بالموضوع، تلقيا تحذيرات من جهات لم يتم الإفصاح عنها، تفيد بأن الإصرار على دفع جميع المساعدات بالدولار النقدي قد يعرّض اللاجئين والعائلات الأكثر فقراً إلى مخاطر التداول في السوق السوداء، وهو ما أخّر اعتراضهما على آليات الدفع التي اعتمدتها المصارف.

الأثر على سعر الصرف
تداعيات هذا النوع من العمليات المصرفيّة لم تقتصر على اللاجئين والعائلات اللبنانيّة الفقيرة المستفيدة من برامج المساعدات، بل شملت عملياً جميع المقيمين بسبب أضرارها على سعر صرف الليرة اللبنانيّة. فسداد قيمة المساعدات بالليرة بعد مصادرة الدولارات النقديّة لا يعني فقط حرمان السوق الموازية من قيمة وازنة من الدولارات النقديّة، بل يعني أيضاً الشروع بطبع كميات ضخمة من النقد لتمويل سداد قيمة هذه المساعدات بالليرة. فعلى سبيل المثال، كلّف برنامج مساعدات الأمم المتحدة وحده نحو 1.56 ألف مليار ليرة من السيولة بالعملة المحليّة، التي جرى خلقها تحديداً لسداد قيمة المساعدات.

وبذلك، تحولت عملية تسديد المساعدات الإنسانيّة بالليرة إلى أحد أساليب تسييل الخسائر الموجودة في النظام المصرفي، أي طبع النقد للتعامل مع هذه الخسائر. وهذه العمليّة بحد ذاتها كانت من أسباب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، نتيجة التوسّع في حجم النقد المتداول بالليرة في الأسواق، وتحوّل هذه السيولة تلقائياً إلى طلب على الدولار النقدي في السوق الموازية.

بروباغندا التخويف من اللاجئين
قبل نحو أسبوع، تداولت الوسائل الإعلاميّة بيان صادر عن رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة، ميشال عون، إثر لقائه أمين عام الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وكان ملفتاً أن رئيس الجمهوريّة لم يجد في ذلك اللقاء سوى فرصة لتحميل اللاجئين السوريين مسؤولية التدهور الحاصل في الاقتصاد اللبنانيّ، بالإضافة إلى تردي الأوضاع الاجتماعيّة. وقبل هذا البيان، خرج جبران باسيل بخطاب شعبوي بمناسبة الإعلان عن ترميم كنيسة في منطقة جبيل، اعتبر فيه أن "هذه الأرض التي أثمرت أنبياء وقديسين لن يحل محلنا فيها لا لاجئ ولا نازح ولا فاسد"، ما يوحي بأن الرجل يضع اللاجئ أو النازح ومخاطره على اللبنانيين بمرتبة الفاسد.

بالتأكيد يعلم القاصي والداني أن ما ينتجه اللجوء السوري لم يرتبط يوماً لا بنوعيّة الخسائر التي لحقت بالنظام المصرفي، ولا بطبيعة المشاكل التي أدت إلى عجز ميزان المدفوعات. كما يعلم أي ملم بالوضع الاقتصادي أن تداعيات النزوح لم ترتبط يوماً بأزمة التحويلات أو عجز الميزانيّة العامّة أو حتّى أزمة سعر الصرف التي برزت بعد الانهيار المصرفي في لبنان. وإذا كان وجود اللاجئ قد أدّى إلى زيادة كلفة دعم الاستيراد بحدود معيّنة، فالأكيد أن البلاد كانت تستفيد أيضاً طوال المرحلة الماضية من خيرات المساعدات التي وردت إلى اللاجئين السوريين، وتحديداً تدفّق العملة الصعبة الناتج عن هذه المساعدات. أما الأهم، فهو أن تقرير رويترز كشف اليوم حجم الأموال التي ابتلعها النظام المالي اللبناني، لتقليص حجم خسائره الناتجة عن الانهيار الحاصل، وهو ما يناقض جميع الإدعاءات التي ترمي المسؤولية عن الانهيار على اللاجئ السوري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها