الأحد 2021/06/13

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

هيئة مكافحة الفساد: دور معطّل وانتخابات معلّبة.. لحماية المنظومة

الأحد 2021/06/13
هيئة مكافحة الفساد: دور معطّل وانتخابات معلّبة.. لحماية المنظومة
مجموعة من الشوائب تعطل دور الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد في الفترة المقبلة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
يتجه القضاء اليوم لانتخاب عضوين من أعضاء الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، التي يُفترض أن تختص بتطبيق مجموعة من قوانين الوقاية من الفساد ومكافحته. لكنّ هذا الحدث المثير للاهتمام، لم يخل من إشكاليّات ناجمة عن سعي القوى السياسيّة منذ البداية لتطويق دور هذه الهيئة وعرقلة تشكيلها وشلّها، وصولاً إلى منعها من تحقيق هدفها الأساسي: مكافحة الفساد. ومع نجاح القوى السياسيّة في تعطيل دور هذه الهيئة، يتعطّل تنفيذ مروحة واسعة من القوانين الإصلاحيّة الأخرى، التي جرى إقرارها أصلاً بهدف تعزيز الشفافيّة في عمل الإدارات العامّة، تحت وطأة الضغوط الدوليّة.

دور الهيئة المحوري
عندما صدر في شهر أيار 2020 قانون إنشاء الهئية الوطنيّة لمكافحة الفساد، جرى تسويق الهيئة للرأي العام بقدر كبير من الاحتفاء المبالغ فيه، للتأكيد على امتثال لبنان لشروط الإصلاح والشفافيّة المفروضة من المجتمع الدولي. وفي تلك الفترة كانت الهيئة نفسها جزء من رزمة القرارات التي كان يتم العمل عليها بالتوازي مع المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي، في محاولة للدخول في برنامج مع الصندوق يفضي إلى منح لبنان رزمة القروض المطلوبة لانتشاله من محنته.

في الواقع، أناط القانون في ذلك الوقت مجموعة من الصلاحيات المرتبطة بتطبيق قوانين إصلاحيّة أخرى، كصلاحيّة مراسلة هيئة التحقيق الخاصّة لرفع السريّة المصرفيّة في حالات الاشتباه بعمليات كسب غير مشروع، أو استلام الشكاوى المتعلّقة بعدم تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات. كما منحت القوانين هذه الهيئة صلاحيّة استلام تصاريح الذمة الماليّة التي يفصح فيها العاملون في القطاع العام عن ممتلكاتهم، بموجب قانون الإثراء غير المشروع، وتطبيق قانوني حماية كاشفي الفساد واسترداد الأموال المتأتية من الفساد.

ولم يكن انشاء الهيئة مجرّد إجراء إضافي منفصل عن سائر القوانين المتعلّقة بالشفافيّة ومكافحة الفساد، بل مثّل ركناً أساسياً لا يمكن تطبيق جميع هذه القوانين بدونه. ولعلّ هذا الدور المحوري هو ما جعل القوى السياسيّة تستهدف تعطيل عمل الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، التي لم يتم إقرار قانون إنشائها إلا تحت الضغط الدولي. فمن الناحية العمليّة، كان يكفي أن يتم تعطيل تشكيلها بعد إقرار قانون إنشائها، لمنع تنفيذ جميع القوانين الإصلاحيّة الأخرى، وهذا بالظبط ما جرى لاحقاً.

تعطيل تشكيل الهيئة
نص قانون إنشاء الهيئة على ترشيح أعضائها بعد أشهر ثلاثة كحد أقصى من تاريخ نشر قانون، على أن يتم التصويت على اختيارهم في مجلس الوزراء بعد شهر واحد من الترشيح. ووفقاً لهذه المهل، كان يفترض أن يختار مجلس الوزراء أعضاء الهيئة الأربعة من أسماء يرشحها كل من مجلسي نقابتي المحامين في بيروت والشمال، ونقابة خبراء المحاسبة المجازين، ولجنة الرقابة على المصارف، إضافة إلى وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة. وإضافة إلى الأعضاء الأربعة المعينين من الحكومة، بعد أن ترشحهم الجهات المذكورة، ينص القانون على انضمام قاضيان متقاعدان إلى الهيئة، بعد أن ينتخبهما القضاة.

بالرغم من المهل المحكمة المنصوص عليها، مرّ أكثر من عام على إقرار القانون في المجلس النيابي من دون أن يتم ترشيح الأسماء التي يفترض أن يختار على أساسها مجلس الوزراء الأعضاء الأربعة المعيّنين في الهيئة، كما لم تبادر الحكومة أو أي من وزرائها لتحريك هذا الملف. وبذلك تعطّل تشكيل هذه الهيئة، وتعطّل تنفيذ مروحة واسعة من القوانين الإصلاحيّة التي تفاخر بإنجازها المجلس النيابي لتملّق المجتمع الدولي والتظاهر بالامتثال لشروطه الإصلاحيّة.

ولعلّ عمليّة الإطاحة بفكرة تشكيل الهيئة لم تكن سوى جزء من تطورات المشهد السياسي العام في البلاد. فبعد أن أطاح تعنّت القوى السياسيّة ورفضها شروط الحل بالمفاوضات مع الصندوق، وبعدما اتضح أن الحصول على دعم المجتمع الدولي لبنان مالياً مسألة بعيدة المنال، تخلّصت القوى السياسيّة من عبء تشكيل الهيئة، ووضعت الفكرة على الرف بانتظار المساومة مجدداً على الإصلاحات المنتظرة. وظلّت الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد حبراً على ورق قوانين المجلس النيابي الإصلاحيّة التي لم تدخل حيّز التنفيذ.

تعليب انتخاب القاضيين
ونام ملف تعيين الأعضاء الأربعة، فيما يتجه القضاة اليوم لانتخاب العضوين الآخرين في الهيئة المعطّلة والمشلولة أساساً، بسبب عدم تعيين الأعضاء الآخرين. ورغم عبثيّة الانتخابات، لم تخل العمليّة كلها من الشوائب التي دسّتها عمداً القوى السياسيّة لتعليب نتيجة الانتخابات. فالمطلوب ألا يكون هناك أي هامش يسمح بإيصال أعضاء يمكن أن يهددوا مصالح هذه القوى السياسيّة في الإدارة الرسميّة.

ولخصت "المفكّرة القانونيّة" في تقرير خاص، صدر يوم أمس، مجموعة من هذه الشوائب المعطلة لدور الهيئة في الفترة المقبلة. فعمليّة الترشّح حصرت بالقضاة المتقاعدين فقط، علماً أن سن التقاعد لدى القضاة يتجاوز 68 سنة، ما يعني تلقائيّاً استبعاد جميع القضاة الشباب من هذه العمليّة. وهذا الشرط غير المفهوم بدا مستغرباً للمفكرة القانونيّة، نظراً إلى ضغط الملفات الهائل المتوقّع بعد انطلاق عمل الهيئة، في ظل تشعّب أدوارها وصلاحياتها واستشراء الفساد في مرافق الدولة والإدارات العامّة.

وجرى حصر حق الترشيح بقضاة الشرف، أي القضاة الذين جرى تعيينهم بهذه الرتبة بموجب مراسيم خاصّة بعد تقاعدهم. وهذا الشرط يُخضع حق الترشّح إلى عضويّة الهيئة إلى استنسابيّة الهيئات القضائيّة أو الجهات الموقعة على مراسيم تعيين قضاة الشرف. وخصوصاً أن هناك العديد من القضاة الذين لم يحصلوا على امتياز التعيين كقضاة شرف بعد التقاعد. وهذا من دون توفّر أسباب موضوعيّة لذلك. وعلى أي حال، هذا الشرط قيد إضافي يمنع القضاة من اختيار ممثليهم في الهيئة بحريّة، كون مسألة تعيين قضاة الشرف تستلزم اقتراحاً خاصاً من وزير العدل أو رئيس مجلس الوزراء.

وبعد دس هذه الشوائب في العمليّة الانتخابيّة، انحصر الترشّح إلى عضويّة الهيئة بقضاة خمسة متقاعدين فقط، فيما تضمّنت لائحة المترشحين بعض الأسماء المستفزّة والفاقعة، والمتورّطة بملفات فساد أو قضايا إتجار بالمخدرات.

مسرحيّة الإصلاحات
لم تقتصر الأفخاخ والألغام الهادفة إلى الإطاحة بدور الهيئة على مسألة تعليب الانتخابات وتعطيل تشكيلها. فعمليّة وضع اليد على الهيئة بدأت منذ تحضير مشروع قانون إنشائها، الذي منح مجلس الوزراء صلاحيّة تعيين غالبيّة أعضائها مباشرة، في تناقض واضح مع مبدأ منح الهيئة استقلاليتها عن السلطة التنفيذيّة. واستمرّت هذه المحاولات بسعي وزيرة العدل لإطلاق مكتب داخل وزارتها، لاستقبال كاشفي الفساد، فيما يفترض بهذه الصلاحيّة أن تكون منوطة بالهيئة نفسها، لفصلها عن عمل الوزارات والسلطة التنفيذيّة.

باختصار، لم يرد أحد أن ينجح مسار الهيئة أو تمارس عملها الرقابي المحدد في القانون. فشبكة الفساد أكبر من أن تُعالج بقانون لا يقوى أحد على فرضه على السياسيين المتورطين بصفقات الإدارة العامّة وشبكات المحسوبيّة والنفوذ. ومع إحباط دور الهيئة، جرى إحباط تنفيذ باقة القوانين الإصلاحيّة التي تفاخر المجلس النيابي باقرارها طوال المرحلة الماضية، والتي جرى ربط تنفيذها بهذه الهيئة بالتحديد. وهذه التطورات ليست سوى جزء من مسرحيّة الإصلاحات التي لم تنطلي على صندوق النقد والمجتمع الدولي، وهما باتا يدركان أن المتهم بالفساد هو نفسه من يرسم آليات مكافحته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها