الأربعاء 2021/12/01

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

لبنان يدخل مرحلة "التضخّم المفرط": البلاد تتجه إلى انفجار

الأربعاء 2021/12/01
لبنان يدخل مرحلة "التضخّم المفرط": البلاد تتجه إلى انفجار
تضاعفت أسعار السوق بمعدّل 2.73 مرّات خلال عام واحد (Getty)
increase حجم الخط decrease

كما توقّع كثيرون من قبل، انتقل لبنان أخيرًا من مرحلة التضخّم السريع والحاد، إلى مرحلة التخضّم المفرط أو الجامح، مع كل ما يعنيه ذلك من معدلات فلكيّة في ارتفاع الأسعار، وتهاوٍ لا قعر له في قيمة أجور المقيمين الشرائيّة. في شهر تشرين الأوّل الماضي، سجّل مؤشّر أسعار المستهلك نسبة تضخّم بلغت حدود 173.57%، وهي أعلى نسبة تضخّم يسجّلها هذا المؤشّر منذ إطلاقه عام 2008. بمعنى آخر، ولفهم خطورة هذا الرقم ودلالاته، تكفي الإشارة إلى أنّه يعني أنّ متوسّط أسعار السوق ارتفع بنحو 2.73 أضعاف، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، في تطوّر لافت وغير مسبوق منذ بدء الأزمة الماليّة في لبنان.

قبل شهر أيلول الماضي، كان الدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان لاستيراد الأدوية والمحروقات يكفي لتحييد أسعار هذه المواد عن تداعيات هبوط قيمة الليرة مقابل الدولار، كون آليّة الدعم قامت على بيع الدولار لمستوردي هذه المواد بأسعار صرف مدعومة. وهذا الأمر، كان كفيلاً بالحد من وتيرة ارتفاع أسعار السوق، خصوصًا أن أسعار الغالبيّة الساحقة من السلع والخدمات تعتمد بدورها على أسعار المحروقات، التي تدخل من ضمن كلفة إنتاجها. أمّا بعد رفع الدعم، فبات أي ارتفاع في سعر الدولار يؤدّي إلى إدخال السوق في موجة أقسى وأشد من ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، التي ترتبط أسعارها بسعر المحروقات، وهو ما أدخل البلاد في أتون التضخّم المفرط الذي نشهده حاليًّا.

أما أخطر ما في الموضوع، فهو نوعيّة السلع والخدمات التي قادت ارتفاع نسب التضخّم الجديدة، والتي تمثّل أكثر أبواب الإنفاق حساسيّة، أي تحديدًا الحاجات الملحّة التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تأجيل تأمينها، كالمواد الغذائيّة والنقل والخدمات الأساسيّة وغيرها.. باختصار، تنذر هذه الأرقام بأزمة اجتماعيّة مقبلة، في ظل التراجع التي سيطرأ على قدرة المقيمين الشرائيّة ومستوى معيشتهم.

الحاجات الأساسيّة قادت ارتفاع الأسعار
يتتبّع مؤشّر أسعار المستهلك تحوّلات الأسعار المتعلّقة بسلة نموذجيّة من السلع والخدمات التي تستهلكها الأسر المقيمة في لبنان، مع تحديد ثقل معيّن لقيمة التحوّل في قيمة كلّ منها. وبمجرّد الدخول في تفاصيل تحوّلات أسعار كل فئة من هذه السلع والخدمات، يتبيّن أن أسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الكحوليّة بالتحديد، سجّلت أعلى نسبة ارتفاع من بين جميع الفئات، ببلوغها حدود 303%. وبذلك يتبيّن أن أسعار هذه المواد بالتحديد تضاعفت أربع مرّات خلال سنة واحدة فقط. مع الإشارة إلى أنّ ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة تجاوز بدرجة كبيرة النسبة الإجماليّة لتضخّم أسعار السوق، ما يشير إلى أنّ ارتفاع كلفة الإنفاق على المواد الغذائيّة مثّل أبرز العناصر التي قادت ارتفاع معدّل التضخّم العام.

كلفة النقل، ارتفعت خلال سنة واحدة بنسبة 508.23%، أي أنها تضاعفت بأكثر من ست مرّات خلال سنة. أسعار الخدمات الصحيّة، سجّلت زيادة بنحو 232%، فيما تكتسب هذه الزيادة حساسيّة استثنائيّة بالنظر إلى محدوديّة التغطية التي يقدمها حاليًّا الضمان الاجتماعي، وارتفاع كلفة خدمات التأمين الصحّي، التي بات يتم تسعيرها اليوم بالدولار النقدي. مع ضرورة الإشارة إلى أن ارتفاع كلفة الخدمات الصحيّة يرتبط بدوره برفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة والأدوية، وتسعير العديد من مستلزمات العمليات الجراحيّة بالدولار النقدي بعد رفع الدعم. وبسبب رفع الدعم أيضًا، تضاعفت أسعار الغاز والكهرباء والمحروقات على أنوعها بنحو 3.7 مرّات خلال عام واحد لغاية شهر تشرين الأوّل الماضي.

أما أسعار خدمات المطاعم، فارتفعت بأكثر من 301%، أي أنها تضاعفت بنحو أربع مرّات خلال عام واحد، ما يجعل هذه الخدمات بعيدة عن متناول غالبيّة الأسر من محدودي الدخل. كما سجلت أسعار الملبوسات والأحذية نسبة ارتفاع قاسية أيضاً، بلغت نحو 209%، في مقابل زيادة أقل بلغت نحو 150% في أسعار المفروشات، و220% في أسعار مشتقات التبغ والمشروبات الكحوليّة.

ببساطة، ما ألهب نسبة التضخّم العامّة كان أسعار الحاجات الحيويّة التي لا يمكن تجاهلها، كالغذاء أولاً، والخدمات الطبيّة والأدوية والنقل والملبوسات والأحذية. أما أبواب الإنفاق التي لم ترتفع بالنسبة نفسها، فكانت تلك التي تستفيد من تسعيرة الخدمات العامّة التي لم تتم زيادتها بعد، كأسعار الاتصالات التي لم ترتفع إلا بنحو 34%. كما حافظت بعض أبواب الإنفاق القليلة جدًا على أسعارها الحاليّة، كحال الإيجارات التي ارتفعت أسعارها بنسبة ضئيلة للغاية لم تتجاوز 2.59%.

الفقر وغياب شبكات الحماية
تضاعُف أسعار السوق بمعدّل 2.73 مرّات خلال عام واحد، يعني ببساطة تراجع القدرة الشرائيّة للرواتب والأجور بالمقدار نفسه. وهو ما يعني أيضًا دفع المزيد من الفئات الاجتماعيّة إلى ما دون خط الفقر. ولهذا السبب بالتحديد، تقدّر الأمم المتحدة اليوم وجود 4 من كل 5 لبنانيين في مصاف فئة الفقراء، أو في مصاف الفئات الأشد فقرًا، كنتيجة تلقائيّة لتهاوي قيمة أجورهم ومداخيلهم. ومع تركّز زيادة الأسعار في فئة السلع الغذائيّة تحديدًا، ترتفع مخاطر أزمات الأمن الغذائي، وفقدان المقيمين القدرة على تأمين أبسط حاجاتها الغذائيّة.

في ظل هذه الظروف، تبرز إلى الواجهة مخاطر اتجاه البلاد إلى مرحلة رفع الدعم، مع كل ما صاحبها من ارتفاع قياسي في معدلات التضخّم، دون أن تكون قد حضّرت الحكومة أبسط آليّات الدعم البديلة. فمشروع البطاقة التمويليّة متعثّر لأسباب عديدة، أبرزها غياب التمويل وعدم انسجام المشروع مع شروط البنك الدولي. أما برنامج دعم الأسر الأكثر فقرًا، فيعاني من محدوديّة عدد الأسر المستفيدة من خدماته، قياسًا بالحاجات الفعليّة. وهذا المشروع تأخّر بدوره بسبب عدم التزام المجلس النيابي عند إقراره بشروط الرقابة والشفافيّة التي يفرضها البنك الدولي، مموّل هذا المشروع. ببساطة، كل ما يجري على مستوى ارتفاع الأسعار وزيادة معدّلات الفقر، مع غياب شبكات الحماية الاجتماعيّة، يؤشّر إلى أن البلاد تتجه إلى انفجار اجتماعي كبير يصعب استيعابه.

رفع الدعم العشوائي
كل ما جرى، كان بالإمكان تفاديه لو أن لبنان عمل على رفع الدعم بشكل منظّم، وفق سياسة مدروسة لتعويم سعر الصرف وتوحيده بشكل متدرّج. وهذا المسار، كان يفرض وجود خطة تتكامل فيها السياسة النقديّة الجديدة مع خطة الحكومة للتعافي المالي، وبالتوازي مع الحصول على جرعات الدعم من صندوق النقد. لكنّ دخول مرحلة رفع الدعم بشكل فوضوي وغير منظّم، فتح باب تدهور سعر صرف الليرة من جهة، وأدى إلى رفع معدلات التضخّم بهذا الشكل نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات من جهة أخرى.

وبانتظار إقرار خطة التعافي الماليّة الجديدة، ومن ثم التفاهم عليها مع صندوق النقد كما تستهدف اليوم حكومة ميقاتي، لا يوجد ما يبشّر بحل قريب لأزمة التضخّم وارتفاع الأسعار، لاتصالها أولًا بأزمة سعر الصرف التي لا يمكن استيعابها من دون هذا النوع من الخطط. وبانتظار ذلك، سيكون على الفئات المحدودة الدخل تحمّل وطأة أزمة ارتفاع الأسعار بشكل قاسٍ مع كل تدهور إضافي في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، بغياب أي تصوّر لكيفيّة تصحيح أجور القطاعين العام والخاص بشكل شامل خلال الأشهر المقبلة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها