الثلاثاء 2021/11/30

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

نظريات عون في الاقتصاد والانهيار: رئيس في كوكب آخر

الثلاثاء 2021/11/30
نظريات عون في الاقتصاد والانهيار: رئيس في كوكب آخر
دعوة عون للاستثمار لم تشمل إلا أكثر القطاعات خطورة على المستثمرين! (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

كان من الطبيعي أن يحتلّ الشأن الاقتصادي الحيّز الأكبر من مداولات رئيس الجمهوريّة في قطر، ومن المقابلات الصحافيّة التي أجراها بالتوازي مع اللقاءات الرسميّة هناك، نظرًا لحجم الأزمة الماليّة التي يشهدها لبنان، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه قطر في مساعدة لبنان ماليًّا في هذه المرحلة. لكنّ الغريب كان مواقف عون التي أطلقها هناك وكأنّه في كوكب آخر، وخصوصًا في حديثه عن أسباب الأزمة القائمة والمعالجات التي يمكن أن تراهن عليها البلاد اليوم.

فبعد أكثر من سنتين على حصول الانهيار المالي، وانكشاف أسباب الخسائر وكيفيّة تراكمها بعيدًا عن الأضواء قبل حصول الانهيار، لم يعد من المنطقي أن تخرج تصريحات تعتبر أنّ ما يمر به لبنان حاليًا سبّبته تطوّرات مثل الثورة الشعبيّة أو وجود اللاجئين السوريين. وبعد أن ظهرت بوضوح طبيعة الأزمة الراهنة وحجم فجوة القطاع المالي، لم يعد هناك ما يفسّر اعتبار رئيس الجمهوريّة أن البلاد اليوم تُعتبر "أرض خصبة للاستثمار".. في قطاعي الكهرباء والمصارف!

المقلق هنا، هو أنّ من يردد هذه النظريّات الغريبة والبعيدة عن بديهيات علم الاقتصاد ليس سوى رئيس الجمهوريّة، أي رأس السلطة التنفيذيّة، التي يفترض أن يدير من موقعه دفّة الخروج من الانهيار.

الأرض الخصبة للاستثمار
إذا استثنينا البلدان التي تمرّ بأزمات أمنيّة أو حروب عسكريّة كبرى، من الصعب العثور في جميع أنحاء العالم على بيئة اقتصاديّة تحمل القدر نفسه من المخاطر الماليّة والنقديّة التي يحملها لبنان اليوم، وخصوصًا بوجود أزمة ثلاثيّة الأبعاد تشمل في الوقت نفسه: إفلاس القطاع المصرفي، وتعثّر الدولة، وفوضى سوق القطع وتعدد أسعار الصرف.

في هذا الظرف، لا يمكن لأي مستثمر أن يضمن إيفاء الدولة اللبنانيّة المفلسة بالتزامتها لاحقًا في إطار أي شراكة بين القطاعين العام والخاص، وخصوصًا بعد مرور سنة وثمانية أشهر على توقّف سداد الدولة لسنداتها السياديّة، من دون أن تعيد هيكلة هذه السندات، ناهيك عن استمرار حالة عدم الانتظام في ماليّتها العامّة. وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يكفل للمستثمر استرجاع قيمة الاستثمار في المستقبل بالعملة الصعبة، في ظل تعثّر القطاع المالي وشح الدولار في المصارف التجاريّة ومصرف لبنان. وأخيرًا، لا يمكن للمستثمر أن يتمكّن من تقدير عوائد استثماره، بوجود فوضى أسواق القطع واستمرار التدهور في قيمة العملة المحليّة.

باختصار، وإذا ما أخذنا بالاعتبار أبسط البديهيّات الاقتصاديّة، يمثّل لبنان نموذجاً مثالياً للأرض غير الملائمة للاستثمار، أو بالأحرى: الأرض المحروقة التي لا تصلح لأي استثمار خارجي وازن، وخصوصًا في القطاعات التي ترتبط مخاطرها بمخاطر تعثّر الميزانيّة العامّة وسوق القطع والقطاع المالي.. كالكهرباء والمصارف والبنية التحتيّة!

وحده رئيس الجمهوريّة قرّر أن يدعو الأمير القطري إلى "توجيه رجال الأعمال القطريين إلى الاستثمار في لبنان، حيث الفرص متاحة في المجالات كافّة". عون، اعتبر من قطر أن الأرض اللبنانيّة خصبة في الوقت الراهن لهذا النوع من الاستثمارات والمشاريع، والفرص "كثيرة ومتنوّعة"، وخصوصًا في قطاعات الطاقة والكهرباء والقطاع المصرفي وغيرها. ولأن الفرص متاحة ومغرية، فالمطلوب ليس سوى السير قدمًا في توقيع مشاريع الاتفاقيّات، لاستقدام هذه الاستثمارات الخارجيّة والاستفادة من "الخبرات القطريّة المشهود لها" في هذه القطاعات. 

لا يحتاج المرء إلى كثير من التمعّن في هذه التصريحات ليدرك أن عون لم يبذل أدنى جهد ممكن لتقديم تصوّرات واقعيّة للتعاون اللبناني القطري. فأي رجل أعمال يدرك أن الدخول في مشاريع من هذا النوع ليست سوى انتحار في ظل انهيار اقتصادي كالذي يعيشه لبنان، وبالتالي فكل ما ورد على لسان رئيس الجمهوريّة في هذا السياق لا يتعدّى حدود الكلام غير القابل للتطبيق بأي شكل من الأشكال. مع الإشارة إلى أنّ الانهيارات الاقتصاديّة غالبًا ما يليها فرص استثماريّة متنوعة ومربحة فعلًا، لكن بعد دخول الاقتصاد المحلّي مسار التعافي المالي، واستعادة الانتظام في النظامين النقدي والمالي والميزانيّة العامّة للدولة.

أما الغريب في المسألة، فهو أن دعوة عون للاستثمار لم تشمل إلا أكثر القطاعات خطورة على المستثمرين في الوقت الراهن. فالقطاع المصرفي أقرب ما يكون اليوم إلى "زومبي" غير قادر على تقديم أبسط أشكال الخدمات المصرفيّة لعملائه، بما فيها خدمات تقديم التسهيلات وفتح الاعتمادات المصرفيّة وغيرها. ومن غير الوارد أن يتمكّن لبنان من استقطاب مصارف أجنبيّة لفتح فروع محليّة في لبنان، أو استقطاب مستثمرين أجانب لفتح مصارف لبنانيّة جديدة، طالما أن فجوة الخسائر الأساسيّة وجوهر الأزمة يتركّزان في "بنك البنوك" نفسه، أي المصرف المركزي الذي يحتفظ باحتياطات المصارف النقديّة ويدير توظيفاتها لديه وينظّم أنظمة الدفع فيما بينها.

بمعنى آخر، الدعوة للاستثمار في مصارف لبنانيّة جديدة، أو فروع لمصارف أجنبيّة في لبنان، ليس سوى دعوة لإيداع رساميل هذه الاستثمارات في مصرف لبنان المتعثّر والممتنع عن الدفع، وهو ما يمثّل ضرباً من الجنون لأي مستثمر أو مصرف أجنبي. وقبل معالجة فجوة خسائر المصرف المركزي، وعودة الانتظام إلى القطاع المصرفي ككل، لن يتمكّن لبنان من استقطاب أي استثمارات جديدة في القطاع بالشكل الذي يتحدّث عنه عون.

أمّا قمّة الغرابة، فكانت دعوة عون للاستثمار في قطاع الكهرباء في هذه المرحلة، إذ أن الاستثمار في هذا القطاع يحتاج أولًا إلى إعادة التفاهم على خطّة شاملة للقطاع، لتحديد نوعيّة الاستثمارات والمعامل المطلوبة ونماذج الشراكة مع القطاع الخاص التي سيتم اعتمادها. وهذا النوع من الشركات مستحيل قبل إعادة الانتظام إلى ماليّة مؤسسة كهرباء لبنان، بعد تصحيح تعرفتها تدريجيًا، لتتمكّن من الإيفاء بإلتزاماتها لأي شركة خاصّة يمكن أن تدخل معها بشراكة لتوليد الكهرباء، من خلال معامل جديدة. كما يحتاج ذلك إلى وضع إطار واضح لعلاقة المؤسسة بمصرف لبنان وماليّة الدولة، وطريقة تأمين العملة الصعبة التي تحتاجها لشراء الفيول أو سداد الالتزامات للشركات الخاصّة. ومعالجة الجانبين النقدي والمالي من أزمة قطاع الكهرباء، مربوط بدوره بالخطة الماليّة الشاملة، التي لم يتم البت بها بعد، ولم تتبيّن بعد حظوظ نجاحها. وقبل البت بكل هذه المسائل، لا أمل باستقطاب دولار واحد كاستثمارات أجنبيّة في هذا القطاع بالتحديد بالشكل الذي يتحدّث عنه عون.

أسباب الأزمة الماليّة: الثورة، اللاجئين، وكورونا
لم يقتصر بُعد عون عن فهم الأزمة على الدعوة الغريبة للاستثمار التي قدمها للقطريين، بل شمل كذلك تشخيصه لأسباب الأزمة، كما عددها في المقابلة التي أجراها مع صحيفة "الراية" القطريّة. بالنسبة إلى عون، تراكمت أسباب الأزمة تاريخيًّا بسبب وجود اللاجئين السوريين في لبنان، وعدم عودتهم إلى بلادهم بسبب اعتماد مبدأ العودة الطوعيّة. ومن ثم ضاعفت من تداعيات الأزمة الاحتجاجات التي اندلعت سنة 2019، قبل أن يتفشّى وباء كورونا لاحقًا ويزيد من ثقل الأزمة.

من الناحية العمليّة، يتجاهل رئيس الجمهوريّة الأسباب الفعليّة والأهم التي مهّدت للانهيار بالشكل الذي حصل سنة 2019، والتي تتعلّق بأزمة ميزان المدفوعات منذ عام 2011، وهو المؤشّر الذي يلخّص صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج. ومنذ ذلك الوقت، كانت تتراكم خسائر مصرف لبنان في السر، في ظل الإصرار على اعتماد مبدأ تثبيت سعر الصرف بالرغم من أزمة شح العملة الصعبة، والإنفاق من الاحتياطات لهذه الغاية. أما الهندسات الماليّة، ففاقمت من حجم الخسائر المتراكمة، بعد أن تم منح أرباحاً خياليّة للمصارف مقابل توظيف سيولتها بالعملات الأجنبيّة في مصرف لبنان. وفي هذه الفترة، كانت هناك عوامل خلل البنيويّة تدفع بالاتجاه نفسه، مثل حجم العجز في الميزانيّة العامّة، وطبيعة الاقتصاد اللبناني الريعي والمعتمد على الاستيراد من الخارج.

هذا المشهد، كان يراكم الخسائر الفعليّة في ميزانيات مصرف لبنان بين عامي 2011 و2019، بانتظار لحظة انكشافها. ولهذا السبب بالتحديد، لم يكن للاجئين السوريين أي أثر يُذكر في أزمة القطاع المالي، التي تحوّلت لاحقًا إلى أزمة نقديّة ومن ثم أزمة تعثّر في سداد الدين السيادي. بل وعلى العكس تمامًا، كان وجود اللاجئين السوريين سببًا لاستفادة النظام المالي اللبناني من تحويلات خارجيّة وازنة، جاءت على شكل مساعدات للاجئين على مدى السنوات العشر الأخيرة. وللسبب نفسه، لم تكن الثورة الشعبيّة التي حصلت في 2019 سببًا للانهيار، بل مجرّد لحظة انكشفت عندها كتلة الخسائر التي تراكمت على مدى تسع سنوات سابقة.

في كل الحالات، لا يبدو من كل ما سبق أن عون خطط فعلًا لتقديم طروحات جديّة في زيارته القطريّة، وخصوصًا من الناحية الاقتصاديّة، وهذا ما يظهر من نوعيّة "الدعوات" الاستثماريّة التي تحدّث عنها في زيارته. بل وأكثر من ذلك، لا يبدو أن عون يملك فعلًا أي رؤية لكيفيّة المضي قدمًا في المعالجات الماليّة والاقتصاديّة، وخصوصًا إذا كان تشخيصه للأزمة قائم على هذا النوع من التحليلات، التي لا تبذل الكثير من الجهد لفهم خلفيّة الانهيار الحاصل اليوم، أو صياغة طروحات واقعيّة للتعامل معه. في خلاصة الأمر، من الأكيد أن رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة غير قادر –بهذا النوع من الخطابات الغريبة- على تقديم الصورة الناضجة التي يفترض أن يقدمها لبنان أمام المجتمع الدولي، في مرحلة يفترض أن يكون عنوانها استعادة الثقة بقدرة لبنان على النهوض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها