السبت 2021/01/30

آخر تحديث: 14:31 (بيروت)

ما خفي أعظم: كيف "خنق" سلامة المستشفيات بعزّ كورونا

السبت 2021/01/30
ما خفي أعظم: كيف "خنق" سلامة المستشفيات بعزّ كورونا
46% من احتياطات مصرف لبنان التي تم استخدامها لم تذهب للدعم! (مستشفى أوتيل ديو، علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

كان المفترض أن تكون مسألة ترشيد الدعم من مهام الحكومة الجديدة، لتحدد الأوليات وتقرر كيفيّة تقنين استعمال الدولارات المتبقية في المصرف المركزي، وفقاً للحاجات الأكثر إلحاحاً. لكن مجدداً، وبغياب هذه الحكومة، يبدو أن حاكم المصرف المركزي وجد يديه طليقتين ليُفتي ويقنن استعمال هذه الدولارات وفقاً لما يراه مناسباً، تماماً كما سمح له غياب الحكومة بأن ينفرد بوضع سياسات تحديد خسائر المصارف، وإعادة هيكلتها، وإعادة رسملتها، على هواه ومن دون أي رقابة. وفي قضيّة الدعم، وبالتحديد دعم المستلزمات الطبيّة والأدويّة، يبدو أن سياسات الحاكم بدأت تفضي إلى محاصرة وخنق المستشفيات، في عزّ أزمة تفشّي وباء كورونا، بدل أن يكون القطاع الطبي في هذه المرحلة بالذات محيّداً عن أي تقنين أو ترشيد في استعمال دولارات احتياطي المصرف المركزي.

مفاخرة فارغة
بنبرة هي أقرب لتمنين اللبنانيين، أصدر مصرف لبنان بياناً تفاخر فيه بإتمام تحويلات لصالح المستشفيات العامة والخاصّة، بمجرّد ورود كتاب بهذا الخصوص من وزارة الصحّة، معلناً أن دوائر المصرف نفّذت هذه التحويلات بشكل فوري وسريع. وبالتدقيق في سطور البيان، سرعان ما تبيّن أن التحويلات التي يتحدّث عنها مصرف لبنان لا تُعنى بالتحويلات العالقة في دوائر المصرف، والمتعلّقة باستيراد المستلزمات الطبيّة من الخارج، بل بتحويلات داخليّة من حسابات الخزينة اللبنانيّة إلى حسابات المستشفيات العامة والخاصة في مصرف لبنان والمصارف التجاريّة.

ببساطة، لم يكن البيان هذا سوى مفاخرة فارغة من أي معنى، عبر تمنين اللبنانيين من كيس خزينتهم، فيما كانت مأساة القطاع الطبي الفعليّة العائدة لتأخّر التحويلات إلى الخارج على حالها. ويبدو أن بيان المصرف المركزي جاء ليخلط الأوراق ويذر الغبار في عيون الرأي العام عن قصد، من خلال استعراض هذا "الإنجاز" وإيهام اللبنانيين بأنّه عالج "أزمة تحويلات المستشفيات"، في حين أن الأزمة الفعليّة التي يتم الحديث عنها في الإعلام هي في مكان آخر. مع العلم أن فرضيّة تعمّد ذر الغبار في العيون يعززها تضمين البيان خبراً متعلّقاً بتحويلات خارجيّة، مرتبطة بشراء لقاحات كورونا، عبر برنامج كوفاكس.

المستشفيات الجامعيّة ترد بقسوة
بعد أقل من 24 ساعة من بيان المفاخرة، صدر بيان آخر عن تجمّع المستشفيات الجامعيّة ليضع النقاط على الحروف، ويوضّح المسألة أمام الرأي العام، ولو من دون ذكر البيان المضلّل الذي أصدره المصرف المركزي.

بيان المستشفيات طالب بتنظيم وتسريع آليّة دعم المستلزمات الطبية لدى مصرف لبنان، بما يضمن للمستشفيات والموردين استمراريّة عملهم، خصوصاً أن ثمة معاملات عالقة لدى مصرف لبنان منذ الفصل الرابع من العام الماضي. وهي معاملات تنتظر إحالتها للمصارف التجاريّة لإتمام التحويلات لمصلحة الشركات المصدّرة في الخارج. أما كلفة هذه العرقلة، فكانت إزدياد النواقص في المستلزمات الطبية والأدوية لدى المستشفيات. وهو ما أدى إلى زيادة التعطيل في دورة عملها وجعلها أقل قدرة على تقديم الخدمات الإستشفائيّة.

أما أخطر ما أشار إليه البيان، فهو مطالبة وكلاء بعض المستلزمات الطبيّة سداد قيمة المشتريات بالدولار الطازج، بعد أن توقفوا عن تقديم معاملات الدعم لمصرف لبنان، نتيجة تراكم الطلبات السابقة الموجودة لدى مصرف لبنان وغير المسددة لهم. مع العلم أن ارتفاع أسعار المستلزمات الطبيّة في الخارج نتيجة تفشّي وباء كورونا عالميّاً، مثّل عامل ضغط إضافي على المستشفيات، وزاد من كلفة عمليات الاستشفاء، خصوصاً أن كلفة تجهيز السرير الواحد المطلوب للتعامل حالات كورونا تتجاوز 100 ألف دولار، وفقاً للبيان.

النتيجة البديهيّة لكل هذه التطورات، لم تكن سوى ما يشهده السوق اليوم من نقص حاد في المستلزمات الطبيّة، وتحديداً أجهزة التنفّس الاصطناعي التي حرصت معظم الدول على تكوين مخزون كافٍ منها قبل تفشّي الوباء، بعد أن تعلّمت الدرس من التجربتين الإيطاليّة والبريطانيّة. أما في لبنان، فإلى جانب نقص هذه التجهيزات في المستشفيات الخاصة والعامة، نبتت سوق سوداء كاملة لهذه الأجهزة، أسوة بسوق الدولار السوداء. ويصبح السبب مفهوماً إذا علمنا أن موردي هذه الأجهزة بالتحديد باتوا يشترطون اليوم سداد ثمنها بالدولار النقدي، لسبب بسيط: تراكم معاملات أجهزة التنفّس الاصطناعي في مصرف لبنان وعدم تمريرها لتنفيذ التحويلات.

التقنين بالعرقلة
عملياً، تفيد المصادر المصرفيّة بأن عمليّة عرقلة معاملات استيراد المستلزمات الطبيّة مسألة يعتمدها مصرف لبنان، كطريقة لتقنين عمليّة استعمال احتياطات المصرف المركزي، عبر إطالة أمد العمليات البيروقراطيّة، وصولاً إلى تعجيز الموردين، ودفعهم إلى استيرادها وبيعها محليّاً بالدولارات الطازجة، بدل اللجوء إلى دعم مصرف لبنان. ويمكن القول أن هذه السياسة المعتمدة من قبل مصرف لبنان نجحت بالفعل، بدلالة حديث المستشفيات الجامعيّة عن اضطرارها إلى دفع ثمن المستلزمات الطبية بالدولار الطازج للموردين، الذين باتوا يرفضون اللجوء إلى معاملات الدعم لاستيراد المستلزمات. مع العلم أن جزءاً كبيراً من هذه المستلزمات يتم استيراده غب الطلب، ووفقاً للحاجة الطارئة. وهو ما يجعل فكرة انتظار معاملات مصرف لبنان لأشهر مسألة متعذرة بالنسبة إلى الموردين والمستشفيات. بمعنى آخر، لم ينتظر مصرف لبنان أي خطة حكومية لتحدد الأولويات وتبني على أساسها مساراً لترشيد الدعم، بل اختار الحاكم أن يرشّد الدعم على طريقته، بهذا الشكل.

يمكن القول أن أسوأ ما في الموضوع هو أن القطاع الطبي يضطر اليوم إلى تحمّل كلفة هذا النوع من الحصار النقدي الذي يفرضه مصرف لبنان بقرار متعمّد، في حين أن مجمل ما احتاجه القطاع لتمويل استيراد المستلزمات الطبية خلال العام الماضي ولغاية شهر تشرين الثاني، لم يتجاوز حدود 150 مليون دولار أميركي، من أصل نحو 5.7 مليار دولار جرى إنفاقها على جميع أبواب الاستيراد التي يدعمها مصرف لبنان. هذا، مع العلم أن ميزانيّة مصرف لبنان تظهر كذلك أن المصرف المركزي بدد خلال الفترة نفسها ما يقارب 10.52 مليار دولار من احتياطاته. ما يعني أن ما يقارب 46% من الاحتياطات التي تم استخدامها خلال هذه الفترة لم تذهب للدعم أساساً. وهو ما يطرح سيناريوهات عديدة، من بينها استعمال الاحتياطات لتهريب بعض الودائع.

الحاكم يقرر شكل الدعم

منذ حصول الانهيار المالي، لم يصارح الحاكم الحكومة بأي من المعطيات المتوفرة بحوزته، سواء من ناحية حجم الاحتياطات المتوفرة، أو من جهة وتيرة استنزافها، أو حتى طبيعة الإجراءات الداخليّة المعتمدة لاختيار الشركات التي تحظى بنعمة الدعم (في حالة السلة الغذائيّة المدعومة بالتحديد). وقد نتج عن هذه المسألة سياسة دعم مشوّهة، رسم معالمها الحاكم بمفرده، فأنفق مصرف لبنان ما يقارب 420 مليون دولار من احتياطاته حتّى شهر تشرين الثاني الماضي، لدعم السلة الغذائيّة، من دون أن يجد اللبنانيون هذه المنتجات المدعومة في الأسواق. كما نتج عن هذه السياسة احتكار قلّة من الشركات المحظية بنعمة الدعم، مع شكوك كبيرة بمصير السلع المدعومة ووجهتها. أما الأهم، فهو شكل الدعم نفسه، الذي فتح الباب أمام أشكال التهريب المختلفة، والذي استفاد منه المقتدر والفقير على حدّ سواء.

في المقابل، يبدو أن لسياسة الدعم ضحايا كثر، سواء من جهة الفقراء الذين لم ينعموا بسياسة دعم توجّه ما تبقى من سيولة إليهم بشكل مركّز، أو من جهة القطاعات الأكثر هشاشة خلال الأزمة الراهنة، وفي طليعتها القطاع الطبي الذي يعاني من تزامن أزمة وباء كورونا مع الأزمة النقديّة. ولعلّ معاناة المستشفيات اليوم ليست سوى إحدى عوارض الفشل الرهيب لسياسات الدعم التي انتهجها مصرف لبنان طوال الفترة الماضية. أما الأهم، فهو أن هذه المستشفيات وقعت ضحيّة الاستنسابيّة غير المفهومة، التي تحكم قرارات حاكم مصرف لبنان وتحدد أولويات الدعم التي يختارها.

أما الأكيد اليوم، فهو أن البلاد باتت في حاجة ماسة لإعادة صياغة شاملة لسياسات الدعم بأسرها، ولطريقة التصرف بالاحتياطات المتبقية في مصرف لبنان. لكن هذه السياسات يجب أن تُقر في ضوء الخطة المتكاملة التي ستلجأ إليها الحكومة المقبلة، والتي ستنال على أساسها دعم صندوق النقد المالي. كما ستحتاج هذه السياسات قانون كابيتال كونترول ينظّم استخدام الاحتياطات، ويحد من استنزافها، وتهريبها لمصلحة أصحاب النفوذ في النظامين المالي والسياسي. وبانتظار هذه التطورات، سيبقى حاكم مصرف لبنان سيد اللعبة، ليتحكم بأولويات السياسة النقدية وفقاً لتقديره ومصالحه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها