الثلاثاء 2021/01/26

آخر تحديث: 16:34 (بيروت)

"الصين 2035": شراكة أميركا بقيادة العالم أو حرب باردة

الثلاثاء 2021/01/26
"الصين 2035": شراكة أميركا بقيادة العالم أو حرب باردة
تسعى الصين إلى تكريس حقها بالمشاركة في تصميم النظام العالمي (Getty)
increase حجم الخط decrease

"من يضع المعايير، يمتلك السوق"، الشعار الشهير أطلقه مؤسس شركة سيمنز في القرن التاسع عشر قبيل الثورة الصناعية، يتردد صداه الآن من الصين قبيل الثورة الصناعية الرابعة، من خلال استراتيجية "معايير الصين 2035" وبشعار مشابه هو "من يضع المعايير التقنية.. يحكم العالم". ولتشكل هذه الاستراتيجية منعطفاً أساسياً في المنافسة مع أميركا، لأنها تعني انتقال الصين من نطاق التنافس على التفوق الصناعي والتجاري والتكنولوجي إلى نطاق تكريس حقها بالمشاركة في تصميم النظام العالمي ووضع القواعد. فهل تقر أميركا بهذا الحق، أم تختار المواجهة المفتوحة طالما لا تزال قادرة، مع المخاطرة بإشعال حرب باردة جديدة وتقسيم العالم إلى معسكرين. 

ما هي المعايير التقنية
لنتفق بداية على أن المعايير التقنية الموحدة تشكل الركن الأساسي للموجة الثانية من العولمة، لأنها تتعلق بالمجالات ذات الصلة بالثورة الصناعية الرابعة مثل: شبكات الجيل الخامس، الطاقة المتجددة، معدات تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الأمن السيبراني الخ.. ومعلوم أن اعتماد معايير موحدة للمنتجات وقواعد الصنع ونظم التشغيل يضمن إمكانية استخدامها وتسويقها في كافة الدول والأسواق. أما إذا اعتمدت كل دولة أو مجموعة دول معاييرها الخاصة، فذلك يعني اقتصار التسويق على هذه الدول، كما حدث في المثل المعروف المتعلق بالقطارات المنتجة في الكتلة السوفياتية، والتي لا يمكن ان تباع أو تعمل في أوروبا، لأن عرضها أكبر من عرض سكة الحديد الأوروبية.

الصين تطرح نفسها شريكاً
والحقيقة أن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية كانت تتحكم بالنظام الدولي للمعايير بالكامل، قبل ان تدخل الصين بخطط متكاملة اقتصادية وسياسية وتقنية، لتصبح شريكاً أساسياً في هذا النظام. وجاء إعلان الخطوط العريضة لاستراتيجية "معايير الصين 2035" في تموز الماضي، في سياق هذه الخطط، وبعد ان تم توفير كل أسباب نجاحها. وهي بالمناسبة جاءت استكمالاً لـ"إستراتيجية صناعة الصين 2025"، التي كرست موقع الصين كمنافس على  المرتبة الأولى عالمياً في الانتاج الصناعي وفي التجارة الدولية وسلاسل الإمداد.

وعملياً تطرح الصين نفسها شريكاً في النظام الدولي للمعايير، بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في جعل هذا المسعى أمراً واقعاً، من خلال العديد من المبادرات والانجازات نذكر بعضاً منها على سبيل المثال:

- طريق الحرير
مبادرة الحزام والطريق ليست كما يظن البعض، مجرد استثمارات ضخمة تضخها الصين لبناء الموانئ والطرق والسكك الحديدية والمناطق الخاصة بالتجميع والتصنيع واللوجسيتات، بل هي بالإضافة إلى ذلك، وسيلة أساسية لتعميم المعايير التقنية الصينية. وذلك ليس استنتاجاً بل ذكر صراحة في تقرير المعايير الصينية لعام 2019 بالقول "أن تعزيز المعايير التقنية الصينية يأتي في مقدمة أولويات مبادرة الحزام والطريق".

ومن أبرز الوسائل التي اعتمدتها الصين في هذا المجال؛ ربط المشاريع التي تنفذها في إطار تلك المبادرة الحزام، بإقامة المدن الذكية والآمنة التي تعتمد المعايير التقنية الصينية مثل أنظمة التعرف على الوجه، تحليل البيانات الضخمة، شبكات الجيل الخامس، الذكاء الاصطناعي. وقد أبرمت الشركات الصينية 116 اتفاقية لتثبيت حزم المدن الذكية والمدن الآمنة منذ عام 2013، منها 70 اتفاقية في البلدان التي تشارك في مبادرة الحزام والطريق. والطريف أن من بينها 25 مشروعاً في مدن أوروبية. والأكثر طرافة ودلالة، أن صربيا وقعت اتفاقية لإنشاء مدينة ذكية بالكامل مع شركة "هايك فيزيون" الصينية المدرجة على القائمة السوداء الأميركية بدعوى انتهاكها لحقوق الإنسان.

- القاذفة الاستراتيجية "هواوي"
تشكل شركة هواوي مثالاً واضحاً على عناصر القوة التي طورتها الصين، فقد باتت ـ رغم العقوبات الأميركية عليها ـ اللاعب الرئيسي الذي لا يمكن استبداله في مجال شبكات الجيل الخامس، والذي لا يمكن إغضابه في مجال الهواتف الذكية، إذ أضطرت شركة غوغل مثلاً إلى التراجع عن قرار منع هواوي من استخدام نظام التشغيل أندرويد التزاما بالعقوبات الأميركية، بعد أن أشهرت هواوي سلاح استخدام نظامها الخاص "هونغ مينغ"، ما يعني خسارة غوغل مستخدمي الهواتف الصينية التي تشكل حوالي 30 في المئة من الأجهزة العاملة بنظام أندرويد في العالم. بل سارعت غوغل إلى التوسط لدى إدارة ترامب لإعفاء هواوي فقط من الحظر الأميركي الذي شمل 68 شركة صينية.

- بروتوكول جديد للأنترنت
غارة ثانية شنتها الصين عبر "القاذفة الاستراتيجية" هواوي بالتعاون مع شركة الصين للاتصالات السلكية واللاسلكية ووزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات، تمثلت بتقديم اقتراح للاتحاد الدولي للاتصالات باعتماد معيار جديد للانترنت اطلقت عليه "بروتوكول الإنترنت الجديد". وقالت هواوي أن "أجزاء من التكنولوجيا الخاصة بهندسة الشبكة الجديدة في طور الإنجاز وستكون جاهزة للاختبار خلال الربع الأول من 2021". وستطلق هواوي معايير بروتوكول الإنترنت الجديد خلال مؤتمر للاتحاد الدولي للاتصالات يعقد في الهند في تشرين الثاني 2021.

طبعاً، أشعل هذه الاقتراح غضباً أميركياً عارماً ومخاوف أوروبية من تفاقم مخاطر سيطرة الصين على الإنترنت العالمي، وحظي الاقتراح بدعم روسيا وعدد من الدول العربية بينها السعودية، في حين أعرب ممثل بريطانيا لدى الاتحاد إن "هناك معركة كبيرة تدور في الخفاء حول مستقبل الإنترنت بين رؤية تقوم على على حرية وانفتاح الإنترنت وبين رؤية تقوم على رقابة وتوجيه الحكومة. وذكرت صحيفة الفايننشال تايمز أن مختبرات أكسفورد المعلوماتية أعدت ورقة لصالح حلف الناتو حذرت فيها من أن بروتوكول الإنترنت الجديد سيؤدي إلى المزيد من سيطرة الصين على الإنترنت".

الحضور في المؤسسات الدولية
في سياق خطتها لعزيز حضورها في المؤسسات الدولية عموماَ، تمكنت الصين من حجز موقعها في المنظمات المعنية بالمعايير والمقاييس، مثل المنظمة الدولية للمعايير (المقاييس) ISO، التي تضم 164 دولة. إذ احتلت الصين في العام 2008 مركز العضو السادس الدائم في مجلس المنظمة، وفي العام 2015 تم انتخاب Zhang Xiaogang، كأول رئيس للمنظمة من خارج دائرة الدول الغربية.

وتكرر ذلك مع اللجنة الكهروتقنية الدولية حيث نما نفوذ الصين ليصل إلى تعيين ينبياو شو رئيساً لها في كانون الثاني 2020، وتعتبر اللجنة التي تأسست في العام 1906، احدى أهم هيئات المعايير إذ يشمل نشاطها قطاعات الكهرباء والإلكترونيات والتقنيات المتعلقة بهما كتوليد الطاقة ونقلها وتوزيعها والتجهيزات وأشباه الموصلات والألياف البصرية والبطاريات والطاقة الشمسية وتقنية النانو وإنتاج وتوزيع الأجهزة الإلكترونية، والوسائط المتعددة، والإتصال عن بعد والتقنيات الطبية الخ... وللدلالة على أهمية ما تقوم المنظمة ومقاربة الصين لها، نشير إلى "القرار الخطير" للجنة ـ كما وصفه المندوب الأميركي ـ بالموافقة على معايير اقترحتها الشبكة الحكومية الصينية للكهرباء لإنشاء ما يعرف بالربط العالمي للطاقة من خلال كابلات ضخمة تربط البلدان والقارات.

كيف ستردّ أميركا
باتت أميركا اليوم، أمام خيارين أحلاهما مر، فإما المواجهة المفتوحة سعياً لـ"تأبيد" وهم القطب الواحد والهيمنة المنفردة على العالم، والوقوع بالتالي في محظور تقسيم العالم إلى معسكرين، وهو ما لا تريده الصين. وإما التعاون والتفاهم مع الصين على المشاركة في قيادة العالم. علماً أن الصين ليست الاتحاد السوفياتي. وهي بالتالي لا تخوض صراعاً أيديولوجياً وجودياً مع أميركا، وهدفها ليس تدمير النظام الدولي ولا أميركا، بل الجلوس إلى طاولة هذا النظام إلى جانب أميركا وليس مكانها.

وعليه، هل يصح اعتبار "إسقاط" دونالد ترامب بالانتخابات وفوز جو بايدن، أحد مظاهر صحوة الدولة العميقة لخطورة التآكل السريع لعناصر قوة أميركا كدولة عظمى. ولتكون مهمة إدارة بايدن إعادة ترميم هذه العناصر وفي مقدمتها القوة الداخلية ممثلة بالمؤسسات والأنظمة و"الوحدة الوطنية"، ومن ثم القوة الخارجية والسعي لاستعادة زمام المبادرة في إدارة النظام العالمي. ما يعني إعادة تصويب مقومات الصراع باتجاه تقوية أميركا وليس إضعاف الصين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها