الأحد 2021/01/10

آخر تحديث: 17:13 (بيروت)

تعويم سعر الليرة: سقوط درة تاج سلامة و"النموذج اللبناني"

الأحد 2021/01/10
تعويم سعر الليرة: سقوط درة تاج سلامة و"النموذج اللبناني"
طارت دولارات المودعين في مصرف لبنان بين 2011 و2019 (Getty)
increase حجم الخط decrease
قبل يومين، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن عصر تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي انتهى. والاتجاه حالياً نحو سعر صرف معوم يحدده السوق " لكن أي تعويم للعملة سيعتمد على مفاوضات مع صندوق النقد الدولي".

منذ التسعينات، أصرّ رياض سلامة على سياسة تثبيت سعر الصرف. وكرّسها كواحدة من المسلّمات في النموذج الاقتصادي اللبناني، التي لا يجرؤ أحد على التشكيك بها أو مناقشتها. ومع الوقت، تحوّلت قدرته على ضمان سعر الصرف الثابت إلى معيار من معايير نجاح المصرف المركزي، التي يتغنّى بها دوماً. فأصبح أسير هذه اللعبة التي وضع قواعدها بنفسه. في معظم بلدان العالم، تصرّ المصارف المركزيّة على انتظام سوق النقد كإحدى إهدافها، إلى جانب أهداف كثيرة أخرى مثل التأسيس لنمو اقتصادي مستدام وثابت، وتأمين سلامة النظام المالي ووسائل الدفع. لكن هذه المصارف لا تضع ثبات سعر الصرف الدائم كمعيار من معايير نجاحها. لا بل تلجأ معظم المصارف المركزيّة في العادة إلى ترك أسعار صرف عملاتها تتذبذب وفق هوامش محددة، كإحدى الوسائل المعتمدة لتحقيق الأهداف الأخرى، مثل السيطرة على معدلات التضخم، أو ضبط عجز ميزان المدفوعات.

سياسة كارثيّة
في إصراره على ثبات سعر الصرف، كان سلامة يخالف معظم آراء الخبراء الاستراتيجيين، الذين حذروه كثيراً من خطورة هذه السياسة على تنافسيّة الإنتاج المحلي مقابل المنتجات المستوردة داخل لبنان، وعلى تنافسيّة صادرات لبنان في أسواق الخارج. وحين بدأت أزمة ميزان المدفوعات بالحدوث منذ 2011، حذّره الخبراء من خطورة الإصرار على هذه السياسة على سلامة النظام المالي. خصوصاً أن سلامة كان ينفق من لحم المودعين الحي، ويبدد دولاراتهم المودعة في المصرف المركزي، لتمويل الاستيراد وتثبيت سعر صرف الليرة، بدل أن يعمد –كما قام إدمون نعيم في الثمانينات- إلى ترك السوق تصحح سعر الصرف تدريجيّاً، لإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات من دون أن يدمّر القطاع المالي.

من غير الواضح سبب إصرار الرجل طوال تلك السنوات على هذه السياسة، التي ضخّمت خسائر مصرف لبنان وأطاحت بانتظام القطاع المالي بأسره، وأنتجت نموذجاً اقتصادياً ريعياً لا تقوى منتجاته على المنافسة. قد ترتبط المسألة فعلاً بكون سلامة أضحى –كما ذكرنا سابقاً- أسير اللعبة بعد أن سوّق ثبات سعر الصرف كمعيار نجاح له، لا بل تحوّل ثبات سعر الصرف إلى درّة تاجه التي يرمقها الإعلام والجمهور باحترام، ولا يمكن أن يتنازل عنها، رغم أن منطق عمل المصارف المركزيّة كان يفرض عليه التنازل عن هذه السياسة في وقت مبكر. خصوصاً بعد ظهور أولى علامات الأزمة سنة 2011.

وقد يرتبط هذا الإصرار على تثبيت سعر الصرف بأمور أخرى، كمصالح وأرباح وحسابات متشعّبة لا ندرك تفاصيلها، منها على سبيل المثال هويّة المستفيدين من سندات الدين بالليرة، والهندسات الماليّة التي ضخمت أرباح المصارف على حساب خسائر مصرف لبنان المتعاظمة، والتي جرت بحجّة الحفاظ على الاحتياطات والدفاع عن سعر الصرف.

 في كل الحالات، بتنا نعلم بقيّة الحكاية اليوم: طارت دولارات المودعين في مصرف لبنان بين 2011 و2019، وكشف النظام المالي عن عورات سياسة سلامة على حين غرّة، واكتشفنا علاقة النموذج الاقتصادي الريعي بسياسات مصرف لبنان النقديّة. كل هذه التضحيات كانت في سبيل حماية منظومة احتلّت فكرة الدفاع عن سعر الصرف ركناً أساسياً فيها.

سلامة ينعي سياسته
من الناحية الرمزيّة، مثّلت مقابلة رياض سلامة الأخيرة محطّة لا يمكن تجاوزها، إذ بدا أشبه بقائد الجيش يخبر جنوده أنّه قرر أن يتجاوز هدف المعركة الأوّل، بعد أن ضحّى بالبلاد والعباد لأجل هذا الهدف بالذات. تخطينا مرحلة سعر الصرف الثابت، وسنتجه إلى سعر صرف عائم بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي، بعد أن ضحينا بإنتاجية اقتصادنا وبودائع نظامنا المالي، لأجل فكرة تثبيت سعر الصرف. سنتجه إلى سعر الصرف العائم، لكن بعد أن أحرقنا الأخضر واليابس بين 2011 و2019 من خلال أدوات التعامل مع أزمة التحويلات الخارجيّة، للدفاع عن سعر الصرف الثابت. في لحظة واحدة، انكشفت عبثيّة أدوات الحاكم للتعامل مع الأزمة منذ حدوثها. وهذا أهم ما في تصريحه.

لكن من الناحية العمليّة، لم يحمل تصريح الحاكم أي جديد بالنسبة إلى التوقعات المتعلّقة بمسار سعر الصرف المستقبلي. فما هو ثابت من أسعار الصرف المتعددة اليوم، ليس سوى ما يدعم المصرف المركزي استيراده من سلع أساسيّة، أي المحروقات والقمح والدواء والمواد الغذائيّة. ومن المعروف أن الحاكم مهّد منذ أشهر لرفع الدعم التدريجي عن هذه المواد، من خلال حديثه في الإعلام والجلسات المغلقة مع الحكومة عن عدم كفاية الاحتياطات للاستمرار بدعم استيراد هذه المواد. ولذلك، دخلت الحكومة منذ مدّة في المداولات الهادفة إلى إيجاد بدائل عن فكرة دعم الاستيراد، كتقديم بطاقات تموينيّة مثلاً، بانتظار قدوم الحكومة الجديدة القادرة على تنفيذ هذا النوع من المشاريع.

بمعنى آخر، تحرير سعر الصرف وإلغاء ما تبقى من دعم للاستيراد بات أمراً واقعاً. وهي مسألة يدركها القاصي والداني منذ أشهر. مع العلم أن الحاكم قدّر حجم الاحتياطات المتبقية والقابلة للاستخدام لدعم الإستيراد بنحو ملياري دولار. ما يعني كفاية هذه الاحتياطات لنحو ثلاثة أو أربعة أشهر فقط من الدعم.

مشروع صندوق النقد
سلامة أصرّ في حديثه على ذكر التفاهم مع صندوق النقد، كبوابة أساسيّة للعبور نحو مرحلة تعويم سعر صرف الليرة. وفي ذلك إشارة إلى مسألتين. المسألة الأولى هي ارتباط تحرير سعر الصرف بسلة متكاملة من الإجراءات التي تأتي ضمن برنامج تقرّه الحكومة، بالتفاهم مع صندوق النقد. ما يعني أن الحاكم غير مستعد للدخول في هذا النفق بخطة يضعها بنفسه، ولا بإجراءات يقرر هو شكلها وأفقها. فما يريده الحاكم هو الغطاء السياسي لهذا النوع من المسارات، خصوصاً أنّه يعلم حجم التبعات التي ستنتج عن رفع الدعم على المستوى المعيشي للمواطنين.

المسألة الثانية، هي أن تعويم سعر الصرف لن يتم إلا وفقاً للنموذج الذي يحبذه صندوق النقد في العادة، والذي يوصي باعتماده في جميع الدول التي يتدخل في أزماتها، وعادةً ما يترافق هذا النموذج مع رزم دعم ماليّة مخصصة لتعامل الدول مع أزمات ميزان مدفوعاتها.

هذا النوع من الإجراءات يستهدف أولاً إعادة سوق القطع إلى كنف النظام المالي الشرعي، من خلال سعر صرف موحّد وعائم يحدده السوق، أما رزم الدعم المالي فتدخل هنا على الخط لخلق هذا السوق وترويضه في المرحلة الأولى، وسحب التبادلات الماليّة قدر الإمكان من السوق السوداء. في الوقت نفسه، تترافق هذه الإجراءات مع رفع الدعم تدريجيّاً عن السلع الأساسيّة، وهو ما سينتج عنه امتصاص لكمية أكبر من السيولة بالليرة من الأسواق إلى داخل النظام المالي، بسبب ارتفاع أسعار هذه السلع. أما العنصر الأهم في هذه المعادلة، فهو تطبيق قيود قاسية جداً على سيولة النظام المالي بجميع العملات، بما فيها العملة المحليّة، لمنع تدفقها إلى الأسواق والتأثير على سعر الصرف.

في الحالة المثاليّة، أي في سيناريو نجاح هذا النوع من الخطط، تساهم القيود على السيولة، مع امتصاص العملة المحليّة بعد ارتفاع سعر المواد التي كانت المدعومة، وانخفاض الطلب على دولار السوق السوداء بفعل انخفاض القدرة الشرائيّة.. تساهم كل هذه العوامل بخفض سعر صرف السوق السوداء تدريجيّاً، فيما يرتفع تدريجياً سعر صرف النظام المالي (المعوّم). وفي النهاية، يفترض أن يلتقي السعران في نقطة معينة، تكون هي سعر الصرف الموحد والجديد.

في الخلاصة، لن تكون النتيجة المتوقّعة لهذا النوع من البرامج ارتفاع سعر صرف السوق السوداء، بل على العكس، يُفترض أن تنخفض لتلاقي سعر الصرف الرسمي المعوّم الجديد في نقطة وسطيّة. لكنّ ذلك لن يكون من دون تبعات مؤلمة على المستوى المعيشي، بل سيكون الثمن القاسي هنا انخفاض القدرة الشرائيّة بعد رفع الدعم، وسحب السيولة بجميع العملات من الأسواق، في سبيل إعادة التوازن إلى سوق القطع. بمعنى آخر، سندفع هنا وبسرعة قياسيّة ثمن سنوات من السياسات غير المدروسة التي انتهجها مصرف لبنان، لتأجيل التعامل مع الأزمة الماليّة التي كانت تمر بها البلاد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها