أقنعة الصفقات
نحو 185 مليون دولار توزع طازجة على متعهدي الجمهوريّة، الذين تتوزّع مرجعياتهم الحزبيّة على أبرز قوى المنظومة. وذلك من خلال مجلس الإنماء والإعمار سيّء السمعة، والمعروف بعدم خضوع مناقصاته لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة. علماً أن مراجعة سريعة لأسماء المتعهدين المحظيين، الذين سيفوزون بهذه الدولارات، تكفي للاستنتاج أن قاعدة المحاصصة وحدها هي المعتمدة معياراً لتقاسمها بين المتعهدين، وأن هؤلاء المتعهدين لم يجسدوا تاريخياً سوى حصّة أحزابهم في عالم الصفقات العموميّة المريبة.
أما هدف المشاريع التي يتقاضى المتعهدون هذه الدولارات لإنجازها لحساب الدولة، فليست سوى مشاريع انتخابيّة على نفقة الدولة، وتخدم الأحزاب السياسيّة نفسها. ولذلك، ما نشهده اليوم لم يعد نوعاً من أنواع الصفقات المشبوهة التي تعوّدنا على سماع أخبارها، بل يرقى ليكون جريمة موصوفة في ظل أصعب مراحل الأزمة الماليّة.
الزفت الانتخابي
مصدر الدولارات هو قرض من البنك الدولي، مخصص لإعادة تأهيل شبكة الطرق وصيانها. بمعنى آخر، يتقاضى المتعهدون الدولارات مقابل زفت يفلش على طرق، على أعتاب الانتخابات النيابيّة، في بلد يشتهر بعبارة "الزفت الانتخابي" إشارة إلى تزفيت الطرق كنوع من أنواع الدعاية والرشوة الانتخابيّتين.
بالتأكيد، كان لدى المنظومة السياسيّة القدرة على تخصيص قيمة هذا القرض لاستخدامه لغايات أخرى، تنسجم مع الحاجات الملحّة في ظل أزمة شح الدولارات: المساهمة في تمويل البطاقة التمويليّة مثلاً، أو تأمين الدواء لأشد الفئات الاجتماعيّة هشاشة، أو حتّى لصيانة معامل الكهرباء التي تساهم قلّة كفاءتها بجزء كبير من التقنين الحاصل.
وتخصيص قروض البنك الدولي لتلك الغايات الانتخابية حصلت لقروض أخرى مخصصة للنقل العام، وجرى تخصيصها لغايات غير غايتها الأساسيّة. ويبدو أن الاستغناء عن النقل العام أسهل على الدولة من الاستغناء عن الزفت، الذي يفتح للأحزاب السياسيّة أبواب المشاريع الخدماتيّة والزبائنيّة في المناطق قبيل الانتخابات، ويفتح لمتعهديها أبواب واسعة من أبواب التربّح السريع والسهل. وبما أن كل حزب من هذه الأحزاب يملك متعهديه المحسوبين عليه، الذين يمثلونه في منظومة الفساد والمحاصصة، فمصلحة المتعهّدين هي مصلحة الأحزاب، ومصلحة الأحزاب تصبح تلقائيّاً سياسة الدولة الرسميّة. سياسة دولتنا الرسميّة التي فضّلت تمويل الزفت الانتخابي على سائر الحاجات الملحّة.
تقاسم الدولار الطازج
وبمجرّد الحديث عن مشروع سيُدر كميّة ضخمة من الأموال، يحضر الجميع لتقاسم الغنائم. ولهذا السبب بالتحديد، أحيل المشروع إلى مجلس الإنماء والإعمار، الذي لا تخضع صفقاته إلى أية رقابة مسبقة من ديوان المحاسبة، وغالباً ما يشار إلى صفقاته المريبة والغامضة لبيان طريقة توزيع المشاريع بين الأحزاب السياسيّة ومتعهديها. وهناك يَسهل رسم دفاتر الشروط على قياس المتعهد، ويمكن وضع مناقصات شكليّة معروفة النتائج مسبقاً، ويصبح بالإمكان توزيع الصفقة على الجميع دون ضجيج.
ولأن كل متعهّد هو ذراع حزب ما يقف خلفه، اقتضت مصلحة الأحزاب دفع كل أتعاب المشاريع بالدولار الطازج فوراً. رغم أن المتعهدين ما زالوا يدفعون جزءًا كبيراً من تكاليفهم بالليرة اللبنانيّة، من دون أن ترتفع هذه التكاليف بنسبة ارتفاع سعر صرف الدولار. وغالبيّة متعهدي الدولة في سائر القطاعات تفاوضوا على إعادة تحديد الأتعاب من دون اشتراط الدفع بالدولار النقدي. والبنك الدولي لم يشترط دفع التكاليف بقيمة القرض نفسها، كما حصل في حالة القرض المخصص لمنح مساعدات للأسر الأكثر فقراً.
والطريف في الموضوع، هو أن الأحزاب نفسها حاولت مصادرة دولارات الفقراء، في حالة القرض المخصص لهم، مقابل منحهم المساعدات بالليرة اللبنانيّة. أما المتعهدون، فتسلموا بدل أتعابهم بالدولار النقدي، من دون أي نقاش. وهنا بالتحديد تتضح أولويات الدولة اللبنانيّة وأحزابها.
هؤلاء أكبر المستفيدين
الصفقة الكبيرة وزعت على عدد من المشاريع التي توزّعت بدورها على متعهدي الجمهوريّة الذين يمثلون أبرز الأحزاب المؤثّرة في المشهد السياسي اليوم، وأكثرها نفوذاً داخل مجلس الإنماء والإعمار. وبمجرّد قراءة الأسماء، يتضح سريعاً أن هؤلاء المتعهدين أنفسهم هم أكبر اللاعبين الذين تورّطوا في صفقات المجلس المشبوهة تاريخياً. وفي النتيجة، نالت الأطراف التاليّة أكبر الحصص من مشاريع القرض:
- حركة أمل نالت أكبر جزء من قيمة المشاريع، بقيمة إجماليّة بلغت 35,966,354 دولار أميركي. وتقاسم المتعهدون المحسوبون على الحركة: محمد دنش ومحمد عيراني هذه القيمة. أما هذه المشاريع، فتوزعت ما بين صور وبنت جبيل والنبطية ومرجعيون وجزين وصيدا والشوف وعاليه.
- حزب الله لم يغب عن حصّة الشيعة من هذه الصفقة، من خلال المتعهّد حسين علي صالح الموسوي المحسوب عليه. وبلغت قيمة مشاريعه الممولة من القرض 12,415,202 دولار أميركي. فيما تركّزت المشاريع التي نالها الموسوي في منطقتي بعلبك والهرمل.
- تيار المستقبل نال مشاريع بلغت قيمتها 24,008,731 دولار أميركي، من خلال المتعهدين المحسوبين عليه عماد الخطيب وجهاد العرب. وقد توزعت هذه المشاريع ما بين البقاع الغربي وراشيا وحاصبيا وزحلة وبعبدا.
- المتعهّد غسان رزق، الذي يتوزّع غطاؤه السياسي ما بين التيار الوطني الحر والحزب القومي وتيار المردة، نال مشاريع بقيمة 14,283,615 دولار. أما هذه المشاريع فتركزت في جبيل وعكار.
- المتعهّد نسيم أبو حبيب نال مشاريع بقيمة 15,464,858 دولار، علماً أن أبو حبيب دخل جنّة الصفقات والمناقصات تاريخياً برعاية الوزير السابق الياس المر، فيما تتدور التساؤلات حول الغطاء السياسي الذي يعمل في ظلّه اليوم. مشاريع أبو حبيب انحسرت في قضائي كسروان والمتن.
- المتعهّد حميد كيروز، المقرّب من القوات اللبنانيّة، نال مشاريع بقيمة 16,786,732 دولار أميركي، وقد شملت المشاريع أقضية طرابلس وبشري والبترون والكورة.
- تيار المردة، وتمثّل من خلال المتعهد أنطوان مخلوف، نال مشاريع بقيمة 9,435,675 دولار، توزعت ما بين قضائي المنية الضنيّة وزغرتا.
المسألة اللافتة في طريقة إنفاق قرض البنك الدولي، هي أن طريقة توزيع المشاريع على المناطق اللبنانيّة جرت وفق قاعدة ستة وستة مكرّر. أي حسب التوزيع المذهبي للمناطق داخل الأقضية المختلفة، ما يدل بوضوح على أن وجهة الملف وطريقة إدارته لم ترتبط فعلاً بحاجات إعادة التأهيل في كل منطقة، بل تمت على أساس توزيع الحصص ومشاريع الخدمات الانتخابيّة على الأحزاب المختلفة.
التقاعس عن إدارة السيولة
في المبدأ، كان من المفترض أن يجري منذ بداية الانهيار البحث عن جميع مصادر السيولة المتوفّرة بالعملة الصعبة، ومنها القروض التي يمكن إعادة توجيهها، كقروض البنك الدولي، ومن ثم دراسة طريقة إنفاقها وفقاً لأولويات اقتصاديّة واجتماعيّة واضحة. وكان من المفترض أن يتم كل ذلك ضمن خطّة تصحيح مالي شاملة، تكفل تقنين انفاق العملة الصعبة، من دون المساس بشبكات الحماية الأكثر حساسيّة.
لكن كل ذلك لم يجر، لا بل تزايد التغاضي عن قصد عن وضع ضوابط لعمليّة إدارة السيولة منذ البداية، كما رفضت أي محاولة لوضع قانون يضبط ما تبقى من سيولة في مصرف لبنان. أما الهدف، فلم يكن سوى ترك الهامش مفتوحاً للأحزاب السياسيّة للقيام بهذا النوع من الصفقات على أعتاب الانتخابات. ولهذا السبب بالذات، تملك الدولة الدولارات لتمويل الزفت الانتخابي وتربح المتعهدين، لكنها لا تملك الدولارات لأهم الحاجات الحيويّة في ظل الانهيار.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها