وبدل أن يكون علي حسن خليل الذي أدار وزارة المالية باسم الثنائي، حامياً للمال العام ومراقباً لشفافية وقانونية عقد النفقات وضابط إيقاع القرارات المالية، أتقَنَ خليل فنّ مساومة باقي أركان المنظومة، وتحديداً التيار العوني، ومن خلفه تيّار المستقبل. فاستمرَّ دور وزراء المالية المتعاقبين، حمّالَ أوجه بين النظرية والواقع.
وعليه، لا يتمسّك الثنائي الشيعي بوزارة المالية حُبّاً بالإصلاح وترتيب مالية الدولة، وإنما لمآرب أخرى، بعضها سياسي وبعضها الآخر مادّي. وتجتمع المآرب تحت مظلّة واحدة، وهي تثبيت القدم بقوّة، ضمن نظام التحاصص. على أن تثبيت القدم يحمل رسائل للقوى السياسية الداخلية، تؤكّد صلابة المكوّن الشيعي وعدم رغبته بالتخلّي عن مكتسباته ضمن المنظومة، ورسائل للمجتمع الدولي، تفيد بأنّ الثنائي قادر على التأثير في قرار الدولة اللبنانية حيال ترسيم الحدود البريّة والبحريّة مع إسرائيل.
وإن كان الجمهور الشيعي يستبشر خيراً من إصرار قيادة الثنائي على وزارة المالية، ففي المقابل لا ينتظر الجمهور تغييراً في أداء وزراء المالية الشيعة. فهؤلاء هُم شركاء باقي مكوّنات المنظومة في تقاسم كل ما له علاقة بالأوضاع المعيشية والتعليمية والصحية... وغيرها.
لا مسؤولية حصرية
لا يحمل الثنائي الشيعي وحده مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، ولا مسؤولية انغماس وزارة المالية بلعبة التحاصص وتخلّيها عن دورها الرقابي والمنظّم لصرف المال العام. بل على العكس، فإن الثنائي لا يحمل وزر التأسيس لهذا الواقع، فمَن أسس له، هو الحريرية السياسية التي استلمت وزارة المالية منذ نهاية الحرب الأهلية حتى العام 2014، باستثناء حكومة سليم الحص التي تولّى خلالها جورج قرم وزارة المال. وبالتأكيد، لا يصحّ الحديث عن دور الحريرية السياسية في تدمير الاقتصاد، إلاّ بذكر المهندس النقدي لهذا الدور، وهو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
النهج الذي أرسته الحريرية السياسية، وَضَعَ مالية البلاد في خدمة المشاريع الريعية، ورَبَطَ عملية البحث عن قروض ودعم دولي، بمؤتمرات رهن البلاد ومؤسساتها، من مؤتمر باريس 1 وصولاً إلى مؤتمر سيدر، والركض نحو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ولم يكن دور الوزير الشيعي في وزارة المالية، سوى اللحاق بمشاريع من سبقهم، من دون تكبّد عناء الإصلاح ومحاربة الفساد كما ادّعوا.
سياسة لا اقتصاد
يعلم الثنائي كافّة مفاصل تركيبة هذه المنظومة، ولا يعترض عليها، بل يسعى لتطوير وتحسين مكانته داخلها، وهذا جزء من إصراره على وزارة المالية، وتحديداً مع ازدياد شراهة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، الذي يسعى إلى التهام كل الوزارات "الدسمة"، كالطاقة والمالية. وعلى الهامش، لم يكن الثنائي أفضل حالاً من باسيل في وزارة الطاقة.
إذن، المسألة سياسية بالنسبة للثنائي. فالضغط الأميركي على حزب الله وحلفائه، وعلى رأسهم حركة أمل وتيار المردة، والذي تجلّى مؤخّراً بالعقوبات على وزير المالية السابق علي حسن خليل ووزير الأشغال العامة السابق يوسف فنيانوس، لم يكن سوى لغة سياسية فهِمَها الثنائي فأصرَّ على النفوذ الشيعي في الحكومة المرتقب ولادتها.
لم يخسر الثنائي اقتصادياً من الحريرية السياسية، بل على العكس، عزَّزت الحريرية موقع الثنائي في السلطة، وتحديداً حركة أمل التي أوكَلَ لها النظام البعثي السوري، وبموافقة أميركية، مهمّة تمثيل الشيعة ضمن الهيكلية الرسمية للدولة، فيما وَضَعَ حزب الله في الجنوب كورقة ضغط على المجتمع الدولي، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، فيما لو حاول أحد إقصاء نظام الأسد عن نفوذه في لبنان. وبطبيعة الحال، ارتضى الثنائي لنفسه هذا الدور، وكان جزءاً من الفساد.
اليوم، لا يصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على وزارة المالية حرصاً على المال العام، ولا لوضع العربة على سكّة الإصلاح، وإنما لضمان الموقف الصلب سياسياً. فيما الأميركيون يصرّون على ليّ ذراعه وتهديده بإخراجه من الحكومة المقبلة، إن أراد التمرّد أكثر. وفي هذه الحالة، قد يتّجه برّي لتسمية وزير شيعي للمالية، نظيف الكف، وغير منتمٍ لحركة أمل أو حزب الله، وقد لا يكون من المؤيّدين المباشرين للثنائي، إذ يكفي أن لا يكنّ العداء للثنائي، وملتزم بالعناوين الاستراتيجية.
على هذا المنوال، لا شيء سيتغيّر اقتصادياً. لا قيامة فعلية لوزارة المالية، ولا جديّة لدى الثنائي في الإصلاح. أمّا الاتفاق على تسوية للخلافات السياسية، فهو كفيل بإعادة الثنائي إلى بيت الطاعة الدولي الذي تعيش تحت سقفه كل أركان المنظومة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها