الجمعة 2020/08/28

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

التدقيقُ الجنائي المستحيل

الجمعة 2020/08/28
التدقيقُ الجنائي المستحيل
رياض سلامة يختصر دور القاضي الواقف والجالس وما بينهما.. والإدعاء العام، والحكم
increase حجم الخط decrease

هل كانت مقابلة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع Arab News بالنسخة الفرنسية لتوجيه رسالة إلى من يعنيه الأمر في الإليزيه قبل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثانية إلى لبنان؟ سلامة قال أنّ لا ممانعة من تدقيق جنائي فرنسي يجريه مصرف فرنسا في حسابات مصرف لبنان؟ ماكرون الذي كرّر مرّات خلال زيارته الأولى إلى لبنان ضرورة مثل هذا التدقيق، ربما وضعت المراجع الفرنسية المعنية في تصرفه معلومات بمقدار من الأهمية عن هذا الملفّ. لكن لا يوجد في فرنسا قانون للسرية المصرفية كما في لبنان. قانون السرية المصرفية لا يعتدّ به في حال إفلاس مصرف أو توقفه عن الدفع. لكن حتى تاريخه لم يُحل أي مصرف إلى القضاء بموجب القانون 2/67. لأنّ المصارف ستدّعي على الدولة ومصرف لبنان بالإفلاس لتستعيد ديونها وتوظيفاتها. لا نعرف كيف ستقلع الشركة التي ستكلّف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان ومن أي نقطة، لو حُجبت عنها المعلومات بداعي السرية المصرفية.

مسرح الرجل الواحد
لنتابع هذا المشهد. لجنة الرقابة على المصارف في تصرفها كل المبالغ التي حُوّلت إلى الخارج. لكن قانون السرّية المصرفية يقف حائلًا بينها وبين الأسماء. شأنها في ذلك شأن أسماء المودعين في المصارف. لكنّ أسماء كل المدينين وحجم ديونهم في تصرفها كذلك. مصرف لبنان أيضًا ممنوع عليه بالموجب نفسه الإطّلاع على أسماء المودعين. الهيئة الخاصة لمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب الوحيدة التي يمكنها في حالات محدّدة كشف السرية المصرفية لتطبيق القانون. النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات طلب إلى الهيئة الخاصة المذكورة كشفًا بأسماء الذين حوّلوا أموالًا، وقت كانت المصارف تعرض عن سداد المودعين حقوقهم على قواعد تمييزية. اعتذرت الهيئة عن عدم استجابة طلب عويدات. القانون لا يتيح لها ذلك إلًا في حال الشك بتبييض أموال. والشكّ بتبييض أموال يعني أمورًا أخطر من هروبها. وهو أنّ المصارف اللبنانية بيّضت الأموال التي خرجت منها. الأسوأ، أنّ المصارف الأجنبية التي استقبلت تلك الأموال ستكون عُرضة للتبييض بدورها. ينسحب ذلك على إمكان أن تكون بعض الأموال التي خرجت توجهت لغايات استثمارية في الخارج، أو لإيفاء ديون، أو لشراء أصول. وليس بالضرورة أن كل الأموال الخارجة مشتبهة. الفصل الثاني من المشهد مدهش لمادة مسرحية. حاكم مصرف لبنان التي تفترض المسرحية إنّه البطل وممسك بتلابيب القصة، والنص والإخراج، فهو الذي سيوفّر كل المعلومات والمستندات للتدقيق الجنائي. فهو حاكم مطلق الصلاحيات للمصرف المركزي. ورئيس الهيئة الخاصة لمكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب. ورئيس هيئة الأسواق المالية ورئيس الهيئة المصرفية الخاصة (محكمة مصرفية بغرفة واحدة). وله تأثيره القوي جدًا على لجنة الرقابة على المصارف. ودور اللجنة المذكورة كناية عن دور المدّعي العام لدى مصرف لبنان. أي أن هناك رجلًا واحدًا على صلة رئيسة بهذا الملفّ، يختصر دور القاضي الواقف والجالس وما بينهما.. والإدعاء العام، والحكم. لو كُلّفت الأم تيريزا، وعمر بن الخطّاب ومعهما تشي غيفارا مهمّة التدقيق الجنائي هذه، لاعتذر الثلاثة مخافة الآخرة!

أين الاستقرار المصرفي؟
لم يقرض مصرف لبنان أموال المودعين للحكومة قال سلامة في حديثه الصحافي. و"طالبت بالإصلاحات المالية في كلماتي في مؤتمرات باريس1 وباريس2 وباريس3. وفي مؤتمر سيدر. المادة 91 من قانون النقد والتسليف تلزم مصرف لبنان بإقراض الحكومة".

المصارف أقرضت الدولة أموال المودعين ليرة لبنانية وعملات أجنبية. وانكشفت غالبية أصولها على الدولة عميلًا واحدًا مشكوك في ذمته المالية. بدليل أنّ سداد الدين كان يجدّد على الدوام وبفوائد أعلى وعمليات مقايضة كان يديرها مصرف لبنان. لو تخضع الدولة لمتابعة لجنة الرقابة على المصارف كأي مدين تجاري لطلبت اللجنة على الفور منذ تسعينات القرن الماضي إغلاق حساباتها، وألزمت المصارف الدائنة سداد الدين من أموال مساهميها. هذا كله كان يجري بتنسيق مع مصرف لبنان ووزارة المال. إلى ذلك، هل كانت توظيفات المصارف في سندات الدولة التي يستحق بعضها في 2037، تتلاءم مع طبيعة ودائعها وهي بمتوسط أجل 4 أشهر و6. هل ينسجم كل ذلك مع دور مصرف لبنان الحفاظ على الاستقرار المصرفي والنقدي. أمّا المادة 91 من قانون النقد والتسليف فهي نفسها التي لا تلزم مصرف لبنان بتسليف الدولة إلّا في حالات استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى وحين انتفاء كل وسائل الإقراض الأخرى. ننسى المادة 90 من القانون التي تورد صراحة بألّا يمنح المصرف المركزي قروضًا لقطاع العام إلّا "تسهيلات صندوق" لا يمكن أن تتعدّى 10 في المئة من متوسط إيرادات موازنة الدولة في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها. دين مصرف لبنان للدولة كان بلا موازنات أصلًا وبلا قطوع حسابات تحصيل حاصل!

لكن المشكلة التي كبرت استقطاب مصرف لبنان الودائع الدولارية وأموال لمغتربين لبنانيين ومقيمين كانوا أودعوها في الخارج، لقاء شهادات إيداع وودائع بفوائد باهظة. الهندسة المالية كانت لشراء الوقت. إلى متى؟ وبأي تكلفة؟ ومن أفاد منها؟ واضح أنّ شراء الوقت ممكن. شرط أن يكون الرهان في محله نهاية المطاف. الرهان كان سياسيًا في الدرجة الأولى ونقديًا – اقتصاديًا في الدرجة الثانية. الأول على صلة بالمخاطر الجيوسياسية الإقليمية المتصلة بالحرب في سوريا والمنطقة. والثاني الأمل في عودة التدفقات النقدية الخارجية وتبدّل وضعية ميزان المدفوعات فائضًا. بافتراض حسن النيّة. لمن يعود تقرير المخاطر الجيوسياسية والمحلية وبناء القرارات عليها وفي مقدمها القرارات النقدية والمالية؟ هذه سياسة عامة تتبنّاها الحكومة، ويناقشها مجلس النواب طالما اتّصل الأمر بالدين والإنفاق. مصرف لبنان هو جزء رئيسي من القرار. لكن لا يُعقل أن يعزف منفردًا. لاسيما اذا ارتبط المصرف بسياسات نقدية غير تقليدية وبقرارات استثنائية. كان سلامة يجول على رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النوّاب. بحسب معلوماتنا كانت معظم تلك اللقاءات بناء على طلب سلامة. وكان على دراية تامّة بالوضع النقدي والوقت المتبقّي لشراء الوقت وتوزيع الهدايا..

هل عرض سلامة حقيقة الوضع وأبلغه إلى المسؤولين المعنيين؟ المعلومات أنّ عون كان على اطّلاع أسبوعًا بأسبوع على المعطيات. نقول ذلك بتحفظ عن إمكان وجود فجوات في معلومات معيّنة وقفًا على حاكم مصرف لبنان من دون غيره. ولا بدّ أنّ هذا النوع من المعلومات قد يكون دقيقًا جدّا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها