السبت 2020/08/22

آخر تحديث: 16:29 (بيروت)

التفاؤل بانفراج مالي واقتصادي بعد انفجار المرفأ وهم وسراب

السبت 2020/08/22
التفاؤل بانفراج مالي واقتصادي بعد انفجار المرفأ وهم وسراب
لم تغيّر كارثة المرفأ شيئاً في تعامل صندوق النقد الدولي مع الأزمة الماليّة اللبنانيّة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
لم يتغير شيء في مستوى الأزمة الماليّة والاقتصاديّة، بعد إنفجار المرفأ. وتدل المؤشّرات مجتمعة إلى أن بعض التفاؤل الذي رُوج له مؤخراً من بوابة الاهتمام الدولي المستجد بلبنان، لم تُبنى إلا على أوهام ومعطيات بعيدة عن الواقع. لا بل ثمّة ما يكفي من أسباب للقول إن الأسوأ لم يأتِ بعد. فمن المتوقّع أن يعقّد الفراغ الحكومي المشهد الاقتصادي إلى حد كبير، وتحديداً المعالجات التي يحتاجها لبنان لأزمته، والتي كان يمكن أن تفتح أمامه أبواب الدعم المالي الخارجي.

مسار التفاوض مع صندوق النقد
لم تغيّر كارثة المرفأ شيئاً في تعامل صندوق النقد الدولي مع الأزمة الماليّة اللبنانيّة، لا بل يمكن القول إن الكارثة وما تبعها من استقالة للحكومة، زادتا من تشدد الصندوق، بإستثناء ما تبلّغته وزارة الماليّة مؤخّراً من إمكان حصول لبنان على 270 مليون دولار كتسهيلات من حصّة لبنان في الصندوق. وعمليّاً يمكن القول إن قيمة هذه التسهيلات تبدو اليوم زهيدة جدّاً، مقارنةً بالمبلغ الذي تتطلع الحكومة الحصول عليه كدعم خارجي، والذي قدّرته أن يتراوح بين 10 و15 مليار دولار، حسب خطّة التعافي المالي.

أما أهم ما في الموضوع، فهو أن هذه التسهيلات ستُمنح بمعزل عن أي خطّة إصلاحيّة يصادق عليها الصندوق. وهذا يعني أنّ لبنان لن يتمكّن من الدخول في برنامج قرض متكامل مع الصندوق، يمكن أن يحصل على أساسه على قروض من جهات دوليّة أخرى، كالقروض التي جرى الحديث عنها في مؤتمر سيدر.

أما الدخول في برنامج قرض، فما زال رهن الشروط الصارمة التي يرفض "الصندوق" التنازل عن أي منها، بمعزل عن الظروف السياسيّة والمعيشية الناجمة عن إنفجار المرفأ. وقد تبلّغ لبنان هذا الموقف بوضوح بأشكال مختلفة خلال الأسبوعين الماضيين. أمّا الإشكاليّة الأهم اليوم، فتكمن في الجمود الذي تلى استقالة الحكومة في التعامل مع هذه الشروط، أو حتّى مفاوضة وفد الصندوق عليها.

وحسب المعطيات التي تلقاها لبنان من صندوق النقد بعد الإنفجار، مازال موضوع قانون الكابيتال كونترول يمثّل الشرط الأساسي والأوّل، قبل منح لبنان أي قروض أو مساعدات جديّة ووازنة. وخصوصاً أن أي سيولة قد يتلقاها لبنان بغياب هذا القانون، تكون عرضة للتسرّب من النظام المالي إلى الخارج لمصلحة النافذين. وعلى أرض الواقع، مازال هذا الملف يراوح مكانه، بعدما أحالت الهيئة العامة لمجلس النواب مشروع القانون إلى لجنة المال والموازنة للدرس. فيما تفيد مصادر اللجنة بأنّها كانت تنتظر قيام الحكومة واستشارييها، قبل الانفجار واستقالتها، بطرح صيغة جديدة من مشروع القانون. لأن الصيغة السابقة لم تتلاءم بتاتاً مع رؤية الصندوق الذي يصر على صياغة تضمن توحيد أسعار الصرف، كجزء من عمليّة "الكابيتال كونترول" في المصارف اللبنانيّة.

بإختصار، سينتظر هذا الملف طويلاً ريثما تتشكّل الحكومة الجديدة، ويعاد النظر بمشروع القانون برمّته في مجلس الوزراء في ضوء ملاحظات الصندوق. ومازال الصندوق يشترط وجود خطّة كاملة تضمن الاعتراف الصريح بخسائر النظام المالي، وتطرح مقاربات لإعادة هيكلته. وهذا الملف أحيل إلى مفاوضات الحكومة السابقة مع المصارف وشركتها الاستشاريّة قبل الإنفجار، بعدما سقطت خطة الحكومة السابقة بالضربة القاضية في المجلس النيابي. وهكذا، بات هذا الملف أيضاً مجمّداً في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة، ومتابعة المفاوضات مع المصارف، وإعادة صياغة الخطّة من جديد. وهذا مسار لن تتمكّن الدولة اللبنانيّة من إنجازه في القريب العاجل.

وأكثر ما يلفت النظر اليوم، هو ارتفاع نبرة صندوق النقد بعد الانفجار، لا سيما في ما يتعلق بالشفافيّة والمساءلة في مؤسسات الدولة اللبنانيّة. وقد تحدّثت مديرة الصندوق كريستالينا غورغيفا في مؤتمر باريس الأخير عن ضرورة "الشروع في عمليّة تدقيق شاملة للمؤسسات الرئيسيّة، بما فيها المصرف المركزي"، كشرط من شروط مساعدة لبنان. مع العلم أن الحكومة المستقيلة تلقّت سابقاً إشارات سلبيّة من الصندوق في ما يخص صيغة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، والتي أقرّتها ولم تتسم بالجديّة التي طالب بها وفد الصندوق في جلسات سابقة. وهكذا، من الواضح أنّ الحكومة المقبلة تحتاج إلى التفاوض مع الصندوق مجدداً على صيغة التدقيق هذه، وعلى مسألة التدقيق في مؤسسات الدولة الأخرى، مع كل ما يعنيه ذلك من إثارة حساسيات المتضررين من مسألة التدقيق هذا من الجانب اللبناني.

وقائمة مطالب صندوق النقد تطول، وستخضع لجلسات التفاوض المقبلة. لكنّ المطالب الثلاثة - أي الكابيتال كونترول والخطة الماليّة والتدقيق - كانت تحديداً ما تلقّاه لبنان من الصندوق بعد الانفجار، كشروط حاسمة قبل البحث في أي برامج قروض إنقاذيّة. ومن الواضح أن صندوق النقد أراد من هذه الشروط أن يبلغ لبنان أن ما استجد بعد الانفجار من أضرار، لن يغيّر شيئاً في معادلات التفاوض التي سبقت الانفجار. وطالما أن الشلل الحكومي يعيق حكماً مسألة الاستجابة لهذه الشروط، فمن المؤكّد أن مسألة الدخول في برامج إنقاذيّة مع الصندوق لن تكون في متناول لبنان خلال الأشهر القليلة المقبلة.

الدعم الدولي ينتظر الصندوق
ما تلقّاه لبنان من مساعدات بعد الانفجار بالكاد تجاوز مستوى 300 مليون دولار. وهي بمجملها معونات إنسانية، موجّهة إلى المنظّمات غير الحكوميّة التي تتعامل مع آثار الانفجار المباشرة، فيما تقدّر مؤسسة التمويل الدولي أن يكون إجمالي الخسائر الناجمة عن انفجار المرفأ يبلغ حوالى 7 مليار دولار. بإختصار، مازالت جميع المساعدات التي تلقاها لبنان بعيدة عن التعامل مع من مستوى الأزمة الماليّة، أو حتّى التأثير في المشهد. والواضح أن حجم هذه المساعات مازال زهيداً، مقارنة بالأضرار والخسائر الماديّة الناجمة عن الانفجار.

وفي ما يتعلّق بالقروض أو المساعدات الدوليّة التي كان ينتظرها لبنان للتعامل مع آثار الانهيار المالي، مازال الملف رهن مستقبل مفاوضاته مع الصندوق، وما ينتج عنها من تفاهم على برنامج متكامل يمكن للجهات الدوليّة الأخرى أن تقرض لبنان على أساسه. وجميع رسائل المانحين التي تلقّاها المسؤولون اللبنانيون قبيل مؤتمر باريس وبعده، تؤكد على حصر جميع المساعدات الوازنة المرتبطة بالانفجار بالهيئات غير الحكوميّة. أما المساعدات أو القروض المعتبرة والمباشرة للحكومة اللبنانيّة، فمرتبطة بملف التفاوض مع صندوق النقد وما يُتفق عليه مع الصندوق من شروط.

الاستثناء الوحيد: المرفأ
في الخلاصة، ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل في مواقف الدول من أزمة لبنان الماليّة. أما الاستثناء الوحيد اليوم، فيتعلّق تحديداً بالاهتمام الفرنسي والأميركي بإعادة إعمار مرفأ بيروت، واستثماره وتشغيله ومراقبة عملياته لاحقاً على المدى الطويل. ولعلّ هذا الاهتمام يتصل تحديداً بملفات إقليميّة مرتبطة بتنافس فرنسا على مواقع النفوذ الاقتصادي في شرق المتوسّط مع تركيا وروسيا والصين. لكنّ الواضح حتّى الآن هو أن الفرنسيين والأميركيين يتعاملون مع هذا الملف باستقلال عن باقي الملفات المتعلّقة بالوضع الاقتصادي اللبناني، والشروط المفروضة على لبنان للحصول على رزم القروض الخارجيّة.

ولعلّ هذا الأمر تحديداً هو ما تعمّد مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل الإشارة إليه من بعبدا، حين شدد على أن تنفيذ الإصلاحات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، هي ما يمكن أن تفتح الباب أمام تحرير أموال مؤتمر سيدر.

في خلاصة عامة، من الواضح أن المشهد بات قاتماً على المستوى الاقتصادي والنقدي. وتحديداً في ظل الفراغ في السلطة التنفيذيّة، والذي يؤكّد عدم إمكان الانطلاق في أي مسار يمهّد للحصول على المساعدات الخارجيّة. أما البدائل التي لا تمر بصندوق النقد أو الدعم الخارجي، فغير موجودة، بسبب عدم رهان الحكومة المستقيلة على أي مسار مختلف. وفي إنتظار تشكيل الحكومة المقبلة، وتبلور خياراتها الماليّة والاقتصاديّة، لن ينتظر اللبنانيون سوى المزيد من الانهيار. ولن تنفع أوهام انتظار انفراجات من بوابة الاهتمام الدولي المستجد بالوضع اللبناني.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها