الجمعة 2020/05/29

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

أوقحُ من الصندوق وأظلم

الجمعة 2020/05/29
increase حجم الخط decrease

في كيمياء السياسة والاقتصاد والاجتماع، يستحيل أن يعبر لبنان الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة منذ استقلاله من دون تغييرات تتناول جوهر النظام السياسي والاقتصادي والعقد الاجتماعي في البلاد. نعلم أن هذا الكلام ليس له جمهور عريض في لبنان اليوم.

ما كرّسه الطائف
حرب الخمسة عشر عامًا أدّت إلى تعديل الدستور وقيام الجمهورية الثانية. سميت حربًا أهلية. وحرب الآخرين على أرض لبنان. وهي كانت من السمتين. لكنها حرب اللبنانيين بعضهم ضد البعض في النهاية، كيفما وُصّفت. وما كانت لتحصل لو كانت الدولة ذات جذور وأساسات قوية. لو كانت ديموقراطية. بنظام برلماني ديموقراطي حقيقي يستند إلى دولة مدنية وليس إلى ائتلاف الطوائف. ولو كانت العدالة الاجتماعية موفورة، والنظام الاقتصادي حرًا وليس احتكاريًا. التسوية التي توّجها اتفاق الطائف دستورًا جديدًا، كان الجانب الخارجي من الحرب العربي والدولي، مقررًا فيها إلى حد كبير. حتى إذا كرّس الطائف عودة أمراء الحرب والميليشيات إلى السلطة، ازداد الانكشاف على الخارج. وانتقل أمراء الحرب إلى صلب الدورة الاقتصادية في البلاد. شرّعوا لمصالحهم النفعية مؤسسيًا. إستقطعوا الدولة ومؤسساتها وكياناتها الاقتصادية والمالية والإدارية من الداخل. حولوها زبائنية كما لم يحصل من قبل. توقف إعمال دستور الطائف بأهم مادة فيه (95) التي تنص على إلغاء الطائفية السياسية وتشكيل هيئة وطنية لهذه الغاية يرأسها رئيس الجمهورية. إلغاء الطائفية السياسية ورد "هدفًا وطنيًا أساسيًا".. في مقدمة الدستور أيضًا (الفقرة ح). يكفي أنه ضمَن النظام الاقتصادي الحر والمبادرة الفردية والملكية الخاصة. العدالة الاجتماعية حُشرت مع "الجمهورية الديموقراطية البرلمانية، والمساواة في الفرص وحرية المعتقد" وخلافها (الفقرة ج من مقدمة الدستور). و"الإنماء المتوازن ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا"، (الفقرة ز) لا علاقة له بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل بحصص المناطق كيانات طائفية ومذهبية.

العدّ التنازلي
لم يتّسع دستور الطائف للكثير من الاقتصاد. رغم أن الطائف جاء مصحوبًا بمرحلة إعادة الإعمار. عقبه تدفقات مالية كبيرة للبنان، لم تتوقف حتى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005 والعدوان الصهيوني في تموز 2006. فترة انعقاد مؤتمر باريس 3 في 2007 حتى 2010، شهد لبنان نموًا حقيقيًا نحو 8 في المئة معدلًا وسطًا. 2009 كانت سنة التدفقات النقدية غير المسبوقة في تاريخ لبنان. أكثر من 21 مليار دولار أميركي موّلت العجز التجاري وفاضت نحو 8 مليارات دولار أميركي في ميزان المدفوعات. لم تكن الإدارة الاقتصادية حصيفة لتوظيف الدفق النقدي قيمة مضافة في الاقتصاد وفرص العمل. كانت الفرصة سانحة ومريحة لإصلاحات مالية قطاعية وهيكلية بعيدًا من الضغط. وكانت مطلوبة من باريس 3. أحداث أيار 2008، واحتلال وسط العاصمة من "حزب الله" وأنصاره أدت إلى قفل الكثير من المؤسسات التجارية والسياحية ومكاتب إقليمية لعدد من الشركات العالمية. حتى إذا كانت 2011، والثورة السورية، وأزمة المصرف اللبناني الكندي على خلفية اتهامه من واشنطن بتبييض أموال لـ"حزب الله" وقَفله، بدأ العدّ التنازلي الذي أسّس للأزمة المالية – الاقتصادية، وإعسار الدولة وتوقفها عن سداد التزامات ديونها الخارجية.

2019 – 2020، غير 1989 – 1990 مرحلة الطائف ومخرجاتها السياسية والاقتصادية. لا غطاء عربيًا بقي للبنان ولا مساعدات مالية. تبني "حزب الله" المشروع الإيراني المعادي لدول الخليج العربي، واكتسابه نفوذًا سياسيًا وحكوميًا في لبنان بعد انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وتصاعد المواجهة حدّة بين واشنطن وبين طهران، تركت لبنان وحيدًا يلعق جراحه في مواجهة أزمة غير مسبوقة. تداعت لها انهيارات مالية ومصرفية وأزمة معيشية واجتماعية، لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال من دون الأسوأ يأتي لا محالة. وبالكيمياء.

قرض الصندوق الممدّد
برنامج قروض صندوق النقد الدولي الميسّر سقفه 4 مليارات دولار أميركي، تبعًا لحصة لبنان من حقوق السحب الخاصة. (SDR) زهاء 861 مليون دولار أميركي. لو حصلنا على السقف المتاح من 4 أضعاف بقينا دون 3.5 مليارات. ويعتقد أن برنامج القروض الذي قد يستخدمه الصندوق للبنان ينطبق على "تسهيل الصندوق الممدّد" (EFF) أو "التسهيل الإئتماني الممدّد" (ECF). وكلاهما يستخدم مع البلدان مخفوضة الدخل التي تشكو عجوزًا نظامية في موازين المدفوعات. إلّا إذا واجه الصندوق عقبات تقنية نحسبها من إثنين. الأول، أن لبنان مصنّف في الشريحة العليا من الدول المتوسط الدخل الفردي إلى الناتج. من زهاء 11 ألف دولار أميركي سنويًا ولا ينطبق على البلدان المخفوضة الدخل. (وفقًا لقاعدة أطلس التي يعتمدها صندوق النقد والمصرف الدوليان). وكان الناتج اللبناني يقدر في 2017 – 2018 بنحو 52-55 مليار دولار أميركي. لكنه تراجع سالبًا في 2019. ويقدّر تراجعه في 2020 بنحو 12 في المئة. وبالتالي سيتراجع مؤشر الدخل الفردي إلى الناتج بحدّة. أمًا الثاني، فلكون لبنان لا يشكو عجز ميزان المدفوعات فحسب، بل دولة متوقفة عن السداد وتحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة.

لا نظن أن صندوق النقد الدولي سيصل في مفاوضات مع الحكومة إلى مرحلة الشروط والإصلاحات كي يقرّ البرنامج الذي يبقى مهمة مجلس المديرين التنفيذي. هناك الاستنساب والشروط و"الشيطان الأكبر" لو كان ثمة شروط سياسية. وستكون على الأرجح. مع ذلك، لدينا من الأبالسة ما يبزّ شياطين الصندوق، ويجعلنا مسخرة للعالمين. لن يحتاج مجلس المديرين التنفيذيين ليكون وقحًا معنا. نحن أوقح، وأظلم، وأوقع، وأشدّ فتكًا بأبناء جلدتنا من الصندوق.

لبنان يحتاج إلى المال فورًا أو نواجه البلايا. الصندوق يوفر التقاط الأنفاس ويؤذن بالإفراج عن تعهدات سيدر على وقع الإصلاحات أيضًا، وبالتقسيط لإعمار بنية تحتية مدمّرة وبلا صيانة منذ سنوات. الدفق النقدي من سيدر ذو طبيعة استثمارية بأجل مستأخر (سنة إلى 3 سنوات) بعد وروده وتشغيله. لكن أهميته لحظة استثماره بارقة ثقة خارجية مهيضة داخليًا. لنتفحّص ماذا حدث في اليومين الماضيين. كهرباء لبنان عاره الأبدي، ومهانة أبنائه، وسواد ليله ونهاره، ووتد افلاسه، قرّر لها مجلس الوزراء بناء معملي الزهراني ودير عمار. "فتى العهد الأغرّ" يريد سلعاتا. يتداعى الرئيس للقرار ويعيده إلى مجلس الوزراء. "إستعادة المال المنهوب". من أين يستعاد بلا قضاء؟ وأي قضاء بلا قضاة وتشكيلات قضائية؟ لماذا لا تصدر وتنشر كما أصرّ عليها مجلس القضاء الأعلى مرجعها الصالح؟ أين قانون استقلال القضاء؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها