الجمعة 2020/05/01

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

"حاكم أنطاكية وسائر المشرق"

الجمعة 2020/05/01
"حاكم أنطاكية وسائر المشرق"
أغفل الفجوة المالية من 42.8 مليار دولار أميركي (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

لم يتوجّه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الجمهور في بيانه الذي انتظره الرأي العام، بمقدار توجّهه إلى رئيس الحكومة حسّان دياب. دياب كان قال في إشارة إلى الودائع أن "الأموال تبخرت". سلامة أكد أن الودائع موجودة.. دياب قال إنه لم يتسلّم من سلامة معلومات طلبها عن عمليات مصرف لبنان وحساباته. سلامة قال إنها سلّمه إيّاها في 9 آذار. دياب وجّه اتهامات خطيرة لسلامة. الأخير قال إنه مستهدف واتّهم خصومه بالتضليل وبنعوت أخرى. المودعون والجمهور والرأي العام لم يأبهوا لمن يصدقون. "الودائع الموجودة" التي تحدث عنها سلامة لم يقل كيف يحصل عليها أصحابها بعملتها أصلًا وفائدة حين الاستحقاق. الاقتطاع منها Haircut الذي نفاه سلامة حاصل ومستمر بأشكال متنوعة. الأمر نفسه في سعر الصرف. راوغ سلامة وزرع القلق وكأنه يؤكد ما سبق وقال "ما بعرف سقف الدولار". والجمهور لا يقلقه سوى الودائع وسعر الصرف!

ركّز سلامة على نحو رئيس على حسابات مصرف لبنان والسياسة النقدية واستقلال المصرف المركزي تمويل الدولة.

الحسابات اختصاص المدققين المفوضين. لن نغوص في ما لا نفهم. التلقين لا يشبهنا. خصوصًا أن في الدائرة الضيقة من الاختصاصيين مصالح وأغراضًا ليست بالضرورة نزيهة وشفّافة ( أصحابنا ومنعرفن!).

تدقيق جنائي
ما يمكن قوله في هذا المجال قبل ظهور نتائج الشركات الدولية الثلاث التي كلّفتها الحكومة تدقيق حسابات مصرف لبنان KPMG وKroll وOliver Wyman، أن الثانية متخصصة بالتدقيق الجنائي. في إشارة واضحة إلى شكوك الحكومة في حسابات مصرف لبنان وعزمها على قطع الشكّ باليقين. أبلغنا أحد الخبراء أن اختصاص الشركة المذكورة التدقيق التحليلي لجمع الأدلة وتحليلها للتأسيس ولتوثيق الأدلة Forensic Audit ويستعان بها في كشف العمليات ذوات الصلة بتبييض الأموال. أمّا الولوج إلى المعلومات ومطابقة الأرصدة ما بين ميزانيات المصارف المجمعة وميزانية مصرف لبنان، وعمليات التحويل وتمويل الخزانة، فيمكن كشفها بالتدقيق المالي من أحد المكاتب العالمية الموجودة في لبنان الغنية بالعناصر البشرية. شرط تأمين الغطاء القانوني واعتماد الشفافية في التعيين. الخبير اعتبر أن "أي مكتب تدقيق لن يكتب لمهمّته النجاح من دون تشريع المهمّة". لقد ساق سلامة الكثير من المعطيات الحسابية لديه. لكنه أغفل الفجوة المالية من 42.8 مليار دولار أميركي. وأورد معطيات تتعلق بـ5 مليارات دولار أميركي يوروبوندز على الدولة مع 16 مليار في "حساب الحصيلة" و25 مليارًا أخرى عجز الموازنة 5 سنوات. للتدقيق أن يوضح الخطأ من الصواب. نشكك في حسبة سلامة لأنه كان عدو الإفصاح بامتياز أكثر من ربع قرن. وفي اعتقادنا كان ذلك بين أسباب الانهيار المالي.

من غرائب الأمور أن يتحدث سلامة عن قانون النقد والتسليف لتغطية تمويل الدولة. أو عن قوانين الموازنة التي تلزمه هذه المهمّة. المادتان 90 و91 من قانون النقد والتسليف واضحتان بلا لبس. المادة 90: باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها (عنها) في المادتين 88 و89 فالمبدأ أن لا يمنح المصرف المركزي قروضًا للقطاع العام.

المادة 91 كانت أكثر تشددًا وحاسمة حيال تسليف الدولة. نصها: إلّا أن في حالات استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علمًا بذلك. يدرس المصرف المركزي مع الحكومة إمكان استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي، أو عقد قرض خارجي، أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة إلخ.. وفقط في الحالة التي يثبت فيها إنه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة مع ذلك على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض. حينئذٍ يقترح المصرف المركزي على الحكومة إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ ممّا قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة. وخصوصًا الحدّ من تأثيره في الوضع الذي أعطي فيه على قوة النقد الشرائية والخارجية.

لا حاجة لتفسير هذا النصّ بإنه يتيح تسليف الدولة إلّا في حالات الكوارث الطبيعية الناجمة عن حروب وزلازل وتفشي الأوبئة. متى شهد لبنان ذلك طيلة 25 عامًا ويزيد من حقبة سلامة حاكمًا مصرف لبنان؟ العدوان الصهيوني في تموز 2006 عقِبه أعلى معدلات نمو سنوات أربعًا تواليًا حتى 2010 بنحو 8 في المئة معدلًا وسطًا. في 2009 شهدت التدفقات النقدية الخارجية طفرة غير مسبوقة فاض بها ميزان المدفوعات نحو 8 مليارات دولار أميركي. ونمت الودائع المصرفية قرابة 20 مليارًا في سنة واحدة. أين ذهب الفائض. أي استثمار حقيقي وقيمة مضافة وفرص عمل نجمت عنه؟ نعم حصلت فجوات أمنية وسياسية كبيرة بعد 2010 وقبلها. لكنها لم ترتق في حال من الأحوال إلى منصوص المادة 91 كي يستمر مصرف لبنان في تمويل الدولة. سنقول أكثر ومن موقع الريبة والاتهام. لماذا كان الإصرار على زيادة الدين حين كان حساب الدولة في مصرف لبنان رقم 36 فائضًا تريليونات؟ الجواب سهل نحسبه. لإفادة المصارف ومراكز المال من الفوائد وتسجيل بطولات لتثبيت سعر صرف الليرة.

سقط في ملعبه!
أخطر ما قاله سلامة وكرّره "مصرف لبنان موّل الدولة ولم ينفق المال".. هذه سقطة المحترف في ملعبه. سلامة قصد أن النفقات ليست شغلته. العذر أقبح من ذنب. ببساطة، أن سلامة رغم علمه بأن الأموال بالدين تنفق في غير موضعها، وتعطى لعميل فاسد لا يستطيع ردّها، وتؤثر على سعر الصرف وبنية الفوائد التجارية، وتشكل خطرًا على القوة الشرائية والتضخم، استمرّ في تسليف الدولة. "هناك مؤسسات دستورية وإدارية لديها مهمة الكشف عن كيفية الإنفاق" قال سلامة. مصرف لبنان كان نبع السيولة المريب. تهدره حكومات ويسرقه نظام سياسي فاسد.

إستقلال مصرف لبنان. "لا يمكن أن ينسق مصرف لبنان بالتعاميم التي يصدرها مع الحكومة. هذا مسّ باستقلاله" قال سلامة. لنقرأ المادة 13 من قانون النقد والتسليف: المصرف شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي. وهو يعتبر تاجرًا في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وينظم حساباته وفقًا للقواعد التجارية والمصرفية وللعرف التجاري والمصرفي". مرة أخرى يرتكب سلامة "فاولًا" في منطقة الجزاء. يا أخي الاستقلال هو مالي كما في القانون. عندما تخرق قواعد تسليف المال يكون حاكم مصرف لبنان قد مسّ استقلال المصرف. المصرف تاجر في تعامله مع الغير. لماذا كل تلك الخسائر إذن؟ ولمصلحة من؟ ومن كلّف الحاكم المهمّة الجليلة أصلًا؟

كل المشكلة مع سلامة حاكمًا لمصرف لبنان غياب التنسيق في السياسات الاقتصادية الكلّية. وهي مشكلة الحكومات ومجالس النواب من باب أولى. يحلو لسلامة ترداد مهمّة مصرف لبنان بحسب المادة 70 من قانون النقد والتسليف. وملخصها سلامة النقد، والاستقرار الاقتصادي، وسلامة الوضع المصرفي وخلافها. لكن مقدمة هذه الفقرة أهم ما فيها وهاكم إيّاها. "مهمّة مصرف لبنان هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم". ليقل لنا سلامة كيف يمكن تحقيق النمو بلا سياسات منسّقة مع الحكومة وخطط يشرعها مجلس النواب. نسأل الحاكم: قروض الدعم من مصرف لبنان بلغت نحو 9 مليارات دولار أميركي لقطاعات مهمّة وحيوية قررتها بنفسك. المجلس المركزي صدّق على صحة توقيعك.. مبلغ كهذا مقطوع من سياق التنسيق مع الحكومة. وكان يمكن أن يؤسس لخطة تنمية وليس لنمو فحسب. من حصل على هذه القروض؟ لماذا لا تُنشر أسماء المستفيدين؟

فرق المدح والردح كانت جاهزة قبل بيان رياض سلامة وبعده. في الإعلام يختلط الجهل بالرشى. في السياسة، الطائفة جاهزة لحماية قطاعات ليست لطائفة بل للوطن والمواطن. إنه النقد والودائع والمصارف وحقوق كل الناس. لكنه أيضًا رياض سلامة "حاكم أنطاكيا وسائر المشرق".. ضاق المجال. لنا عودة في السياسة والاقتصاد السياسي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها