الجمعة 2020/03/06

آخر تحديث: 00:05 (بيروت)

"عصّارة" عويدات و"غربال" ابراهيم

الجمعة 2020/03/06
"عصّارة" عويدات و"غربال" ابراهيم
قد يتوسع التحقيق ليشمل الهندسات المالية لحاكم مصرف لبنان (عن التلفزيون)
increase حجم الخط decrease

سيدخل الأسبوع الأول من آذار 2020 تاريخ لبنان الحديث، ليسجّل الصدع الأول بين أوليغارشيا السلطة السياسية والمال بقرار النائب العام المالي، القاضي علي ابراهيم، وضع إشارة "منع تصرف" على أصول 20 مصرفًا لبنانيًا، ومنع التصرف على أملاك رؤساء ومجالس إدارات هذه المصارف. القرار الثاني الأقل أهمية إقرار مجلس الوزراء مشروع قانون تعديل قانون السرية المصرفية على فئات القطاع العام ومسؤوليه، والإعلام ومتعهدي مشاريع عامة وغيرهم. لم يعد هناك سرية مصرفية في كثير من بلدان العالم. وليست بالضرورة لازمة للاقتصاد الحرّ. لكنها كانت أكثر من ذلك للنظام الاقتصادي والمصرفي اللبناني منذ 1956. علمًا، أن مشروع القانون لا يرفع السرية عن حسابات المودعين العاديين. القرار الثالث وسيكون الأهم، وهو مشروع قانون لتشريع القيود على التحويلات المصرفية إلى الخارج (Capital Control) وهو الأول من نوعه، يصيب جوهر النظام الاقتصادي الحرّ الذي ورد في مقدمة الدستور (الفقرة "و") "النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصّة". ولربّما احتاج الأمر إلى تعديل الدستور نفسه. لا بأس، ففي حالات الطوارئ تُعلّق أحكام الدساتير. لدينا أكثر من حالة طوارئ غير معلنة رسميًا، ومفاعيلها قائمة فحسب.

مفاجأة لائحة التحويلات
لا نعلم طبيعة الإجراءت المقبلة للنيابة العامة المالية والنيابة العامة التمييزية. واضح أن القرارات الأخيرة استندت إلى التحويلات التي تمّت في منتصف الربع الأخير من 2019. لكن المفاجأة وفق المعلومات الأكيدة أن تلك التحويلات بلغت بين 19 تشرين الأول 2019 وبين 13 كانون الأول 2019 مليارًا و308 ملايين و262 ألف دولار أميركي فقط. هذا هو الرقم الذي قدمته الدوائر المعنية في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف إلى رئاسة الجمهورية والحكومة، بموجب لائحة موثّقة شملت 29 مصرفًا أودعتها النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والنائب العام المالي القاضي علي ابراهيم. ليست هذه التحويلات هي سبب المشكلة. المعلومات من مصادر عليمة تفيد أن التحويلات من الدولار الأميركي والعملات الأجنبية بدأت منذ 2018 وتكثفت في 2019. وهي لمساهمين في المصارف ولكبار المديرين فيها ولسياسيين ومودعين كبار وأصحاب نفوذ. لا نعلم ما إذا كان النائب العام المالي يقصد هذا النوع من التحويلات حين أبلغ "الوكالة الوطنية للاعلام" أنه "سيتابع العمل في إطار استكمال التحقيقات، بحيث لا تتعلق فقط بالأشخاص إنما بطلب المزيد من الأوراق والوثائق والمستندات لإستكمال التحقيق. ولا يعتقدنّ أحد في أنه فوق الغربال"، ختم ابراهيم.

مع ذلك، نخشى أن تكون ثقوب الغربال واسعة جدًا. المصارف لم تبرح مساحة نفوذها بعد. ونحسب أن لديها الكثير لتدلي به ويصيب ضلع الأوليغارشيا السياسي مباشرة، كلما اقترب التحقيق من لبّ المشكلة. لاسيما أن التحويلات شملت سياسيين كما سبقت الإشارة. أمّا إذا كانت ستوجه اتهامات إلى المصارف تطال مسؤوليتها عن الفشل في إدارة مخاطر السيولة، وانكشافها على عميل واحد مشكوك في قدرته على الوفاء بالتزاماته وهو الدولة، واستطرادًا مصرف لبنان، فسيتوسع التحقيق ليشمل الهندسات المالية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والفوائد العالية التي ترتّبت للمصارف وعدم تحويل أرباح الهندسة الشهيرة 2016 إلى أموالها الخاصة. بل توزيع معظمها على المساهمين. وهذا يفترض انتقال التحقيق ليشمل حاكم مصرف لبنان ووزراء مال سابقين ومسؤولين معنيين آخرين. هنا قد تنقلب الآية رأسًا على عقِب. لا أمل في الوصول إلى نتائج يترتب عليها عقوبات إلّا في قضاء نزيه وشجاع بدأت ملامحه تتظهرّ في التشكيلات القضائية التي يجريها مجلس القضاء الأعلى الذي يرفض حتى الساعة أي تدخل فيها. خصوصًا وأن رئيس المجلس القاضي سهيل عبّود خبير في مجال القوانين المصرفية والمالية. ولا حقّ لمسؤول الحديث عن مكافحة الفساد إذا أصرّ على عرقلة القضاء والتشكيلات القضائية.

الودائع المصرفية لم تعد محميّة بالدستور والقوانين لحظة فرض قيود على تصرف أصحاب الحقوق بها من خارج القانون. تشريع القيود في الظروف الاستثنائية يعني وضع الدولة يدها على الودائع بصورة غير مباشرة، بلا تحديد الأجل. ولا بدّ لأي تشريع أن يكون موقتًا لفترة محددة بوضوح. وأن يراعي حقوق صغار المودعين الذين يخسرون كل يوم من قيمة أجورهم الحقيقية، نتيجة التراجع المخيف في سعر الصرف وارتفاع الأسعار فوق تراجع سعر الصرف. الأهم، أن يكون القانون في إطار رؤية اقتصادية تستهدف النمو والحدّ من الركود ما أمكن، ومن النمو السالب الذي سيشتدّ في المرحلة المقبلة على نحو مخيف. ويبقى هو الجرعة الأساسية لمواجهة الأزمة والتخفيف من العجز المالي وخلق فرص العمل. ومع تنامي داء الكورونا، لن يبقى نبض للاقتصاد يعتدّ به لتحريك الاقتصاد. تأمين تمويل حاجات الاقتصاد الخارجية أولوية.

أسطوانة دياب
يا دولة رئيس مجلس الوزراء. هل نحتاج إلى كاتب العدل ليصدق على عريضة بأنك لست مسؤولًا عن الانهيار؟ لماذا ترداد الاسطوانة نفسها عمّن يريد عرقلة عملك، ويروج للانهيار وغير ذلك مما لا يريد الناس سماعه. وهو معروف لديهم. ما ليس معروفًا، هو ما ستقدم عليه أنت. وهو في صلاحياتك الدستورية. قلنا لك هذا الكلام في مقالة سابقة. بينما تلتزم الصمت وقت يحتاج الناس إلى الكلام المسؤول الرصين. ونزيد، نحن في هذه الساعة قادرون على معالجة الانهيار ولا نحتاج إلى صندوق النقد الدولي ولا لغيره، لو تصديت للخارجين على الدولة وحقوقها ومستلبي أموالها وإداراتها. فلتعالج الآن أزمة "ندفع أم لا ندفع". وافرج عن الرؤية الاقتصادية وخطة حكومتك.

.. كنا في خاتمة المقالة حين بلغنا أن النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات قرر تجميد قرار النائب العام المالي. وله في ذلك أسباب ومسوغات وصلاحيات. لم تُحسم القضية بعد. رغم كون قرار النائب العام المالي لم يرقَ إلى اتهام محدّد. والقرار النهائي في حال وجود اتهام للقاضي الجالس والمحاكم المختصة. ذخيرة المصارف قوية. "عصّارة عويدات أقوى من غربال ابراهيم".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها