الامتيازات السياسية النفعية والمالية في القطاع العام، والتي امتدّت الى المصارف والقطاع الخاص، هي سبب الانهيار الشامل في الاقتصاد. الخلافات السياسية، والتسويات، وتعطيل التصويت في مجالس الوزراء، وغياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة من مجالس النواب، إنما كان القليل منها لغايات سياسية، والكثير لغايات نفعية لا علاقة لها بالمواطن والاقتصاد إلًا في وجهها السلبي. لا أحد يوفر لنا المال من دون رقابته ووجهة إنفاقه. معروفة حكايتنا مع صناديق التنمية العربية، وصدّنا لقروضها الميسّرة الطويلة الأجل التي عرضتها علينا لاسيما لمشاريع الكهرباء. حتى الشركات العملاقة كجنرال إلكتريك وسيمنز صُدّت بذريعة أو بأخرى. فقوانين بلادها تحظر عليها دفع رشًى وعلاوات الزعرنة! لماذا نبتعد؟ عداؤنا موصوف لادارة المناقصات ومديرها العام الآدمي. لقد بات السؤال يجوز، هل نحن مؤهلون لطلب برنامج مساعدات من صندوق النقد الدولي، كي نجيز لأنفسنا رفض البرنامج، ما دمنا رافضين اصلاحات لأنفسنا وبلادنا؟ تجاربنا مع مؤتمرات باريس وسيدر تقول غير ذلك؟ وإلًا لماذا لم نحصل بعد على تعهدات مؤتمر سيدر؟
أمّا سبب الرفض السياسي للخارج ووصاية صندوق النقد الدولي، فحبّذا الأمر كذلك خصوصًا عندما يأتي من "حزب الله". وكان كلام النائب حسن فضل الله أمس عيّنة منه. أي داخل ترك لنا الحزب خصوصًا، وخصومه عمومًا كي ننبذ وصاية الخارج على لبنان؟ لاسيما عندما تكون التبعية على خلفية العداء للدول العربية ودول الخليج تحديدًا التي لم تبخل يومًا على لبنان في الملمًات. وقد استثمرت اقتصاديًا في البلد منذ استقلاله. وتحتضن نخبة من الكفايات اللبنانية ردّت على لبنان المليارات كل سنة. لا نتحدث في السياسة هنا. الواقع لا مجال لنكرانه.
لا يمكن التقاط أنفاسنا بلا خطة شاملة. علاج الدين بالهيكلة. والأخير لن يكتمل بلا لازمته. اعادة رسملة مصرف لبنان والمصارف. وخطة اقتصادية لم تتضح معالمها بعد، سوى بالخطب الرنانة لاقتصاد الانتاج لا للريع. وقبل ذلك بتثبيت القيود على التحويلات الى الخارج وقنونتها. مع الاحتفاظ بهامش يكفي لتحريك الاقتصاد، واستيراد المواد الأولية الوسيطة للصناعة. وللزراعة والتِقانة والخدمات. بأولوية لولوج المودعين الى ودائعهم وحقوقهم في المصارف لتلبية حاجاتهم الاستهلاكية والضرورية.
هذه الخطة تستحيل بلا مساعدة خارجية ومحلية. كل التركيز على الدين الخارجي لأن للدائنين أسلحتهم يستخدمونها عند الحاجة لعقاب المدين، ولا تتوفر للدائنين المحليين. لكن الدين الداخلي للمصارف بالعملات الأجنبية والليرة يحتاج هو الآخر الى حلّ لا يمكن أن تستهين الحكومة به لأنه جزء لا يتجزأ من نجاح الخطّة الشاملة. فعملة الدين هي التي تحدد طبيعته وليست هوية الدائن. مقيمًا أكان أم غير مقيم. العملة القابلة للصرف على أخرى. والتحويلات من لبنان وإليه المحميًة بالقانون، لا تحتاج الى تأشيرات دخول وخروج كي يصبح الدين الداخلي بالعملات الأجنبية خلال لحظات دينًا خارجيًا بالكامل عملة ودائنًا. لو لم تكن سندات اليوروبوندز متاحة في الأسواق الثانوية الخارجية، لما استحصل لبنان أصلًا على التمويل بالعملات. لا من المصارف اللبنانية ولا من المصارف الأجنبية.
الخبير الاقتصادي ناصر السعيدي الذي يكتنز خبرة واسعة في المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية، يقدّر حاجة هيكلة الدين والمصارف ومصرف لبنان بنحو 50 مليار دولار أميركي. قد يكون الرقم معقولًا الى جانب الخطة الاقتصادية. سُدّت المنافذ في وجه لبنان. لقد انكشفنا على الخارج والاقليم بكل أنواع الانكشاف المؤذية للبنان وشعبه واستقراره. الآن يراد اقتفاء سياسة "النأي بالنفس" إنما معكوسة، ولمجرد انتشال لبنان من القعر الى سطح الماء. ضدّ ارتهان لبنان للخارج. ليتفضّل رئيس الجمهورية و"حزب الله" وحكومة حسّان دياب بالبحث عمّن يمدّ البلد الجريح بالأمصال لمكافحة الانهيار وكورونا في وقت واحد. كورونا لبنان غير الكورونا!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها