الجمعة 2020/02/21

آخر تحديث: 00:14 (بيروت)

"شياطين الصندوق" و"ملائكة النظام"!

الجمعة 2020/02/21
"شياطين الصندوق" و"ملائكة النظام"!
البلد ذاهب إلى سيناريو لا يمكن التنبؤ بنتائجه (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

أمام مسرحية هزلية مبكية نقف من جديد وسط الانهيار. فصلها الأول كان هل نسدّد سندات اليوروبوندز ونفرغ من تمويل الدواء والرغيف والوقود، أم نرفض السداد ودون ذلك محاذير باتت معروفة لاسيما في علاقات لبنان الخارجية. ولبنان كله خارج ومكشوف عليه سياسيًا وأمنيًا وماليًا واقتصاديًا. لم يُحسم الأمر نهائيًا بعد. الفصل الثاني، "نريد صندوق النقد الدولي أو نرفض" لينتهي بالموافقة على طلب بعثة من الصندوق. إنما للاستشارة وليس لبرنامج إنقاذ. الفصل الثالث، هل نكتفي من الصندوق بطلب الاستشارة التقنية أم نطلب برنامج إنقاذ يوفر فسحة أمان من الدائنين الدوليين حملة اليوروبوندز اللبنانية، لنوافق على شروط إصلاح المالية العامة قطاعيًا وهيكليًا، ونلتزمها للتنفيذ ونطلب في آن إعادة هيكلة الديون والبدء بمفاوضات مع الدائنين؟ فصول المسرحية لم تتوقف بعد.

نكرّر. لبنان في حاجة إلى مساعدة مالية فورية. سبل الحصول عليها دوليًا وعربيًا موصدة لأسباب سياسية معروفة، تتصل مباشرة بسياسته الإقليمية المناوئة للعرب لاسيما لدول الخليج والموالية طهران. ومعادية للولايات المتحدة على خلفية صراعها مع طهران. أي أن البلد المدولر بنحو 74 في المئة ودائع وأكثر تسليفات، يريد شنّ حرب على الولايات المتحدة بسلاحها الأمضى: الدولار الاميركي! وقد عجزت طهران عن هذه المهمّة، ووقفت دول الاتحاد الأوروبي التي عارضت خروج واشنطن من الاتفاق النووي صفر اليدين، حتى لمجرد تنفيذ آلية دفع خاصة تتيح لطهران قناة مالية لصادراتها وعلاقاته التجارية من خارج النظام المالي والمصرفي الأميركي والدولار الأميركي. سُدّت المنافذ في وجه أي نوع من المساعدات. والبلد ذاهب إلى سيناريو لا يمكن التنبؤ بنتائجه. بقي صندوق النقد وبرنامجه وشروطه. من يعترض ليفتح صندوقه!

إستدرجنا صندوق النقد الدولي. المكايدة قد تكون فصل المسرحية الآخر وليس الأخير. قبل الوصول إلى طلب برنامج الصندوق وحزمة شروطه. المهمّة الاستشارية نفسها المطلوبة من الصندوق ليست شأنًا سهلًا كما يعتقد البعض. فاستشارة "الطبيب الدولي" تحتاج إلى معلومات مفصّلة عن المريض ومواجعه. وقد يتطلب الأمر فحوصات اختبارية وصورًا شعاعية لبناء استشارته كما طلبت الحكومة. والحكومة كما سابقاتها لا تتوفر لديها المعلومات اليقين عن مطارح الأزمة. ولا الأرقام اليقين. هذا ما نستنتجه من الطلب إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة موافاتها بحقيقة ميزانية المصرف. والأرقام المتعلقة بتوظيفات المصارف لديه، وودائعها، واحتياطه الصافي من العملات لو وُجد. أو العجز الصافي من العملات. ولأن أهمّ ما يجب أن تشمله أي استشارة أو برنامج، هو كيفية الحؤول دون انهيار الوضع المصرفي، لا تبدو المعلومات الدقيقة ميسورة هي الأخرى عن حجم أزمة السيولة والملاءة في المصارف. ويفترض إنها موجودة لدى مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ولدى المصارف نفسها.

.. والتسليفات للقطاع الخاص؟
لو انتقلنا إلى الجانب الآخر المتعلق بديون المصارف وتسليفاتها للقطاع الخاص، ومدى جودتها من عدمها، وحجم الديون المشكوك في تحصيلها NPL، التي تشكل مشكلة كبيرة جدًا بذاتها، لتطلّب الأمر معلومات دقيقة جدًا، يتوقف عليها شرط أساسي من شروط ملاءة المصارف وإعادة رسملتها وهيكلتها. وهذه المشكلة الكبيرة التي أخلت المكان للمخاوف من بلوغ الدولة التوقف عن الدفع رسميًا، "وهل نسدّد اليوروبوندز أم لا نسدّد"، هي جانب حاسم في أي إصلاح مصرفي في استشارة تقدمها بعثة صندوق النقد الدولي. التسليفات للقطاع الخاص المشكوك في تحصيلها قد تكون في ظل أزمة إقفال المؤسسات الاقتصادية تجاوزت 20 في المئة. والمؤونات التي على المصارف حملها لمواجهة تلك الأعباء كبيرة بدورها. مع انكشاف المصارف في وقت واحد على ديون دولة عاجزة عن السداد، وعلى توظيفاتها في مصرف لبنان، يكبر حجم المؤونات المطلوبة. بينما تقف المصارف قاصرة عن زيادة رساميلها وأموالها الخاصة، وتفرض قيودًا على السحوبات والتحويلات إلى الخارج. وكلها إشارات يقين إلى أزمة سيولة وملاءة وتسليفات مشكوك في تحصيلها أو رديئة. لا ندري حتى الساعة ما إذا كانت كل تلك المعلومات باتت موفورة للحكومة كي توفرها بدورها لبعثة الصندوق لتشخيص المريض المعتلّ وتقديم الوصفة.

واقع افتقار الحكومات إلى المعلومة والأرقام، لم يكن عفوًا ولا سهوًا. مجلس النواب لا يعلم. ولا لجنة المال والموازنة ولجنة الاقتصاد والتجارة تعلمان. أولًا لأن الاقتصاد الكلّي كان يدار بالتجزئة وبلا تنسيق الحدّ الأدنى بين مؤسساته المالية والنقدية. بما في ذلك الوزارات المعنية بالاقتصاد والتجارة والصناعة والزراعة. كانت تلك الوزارت ولا تزال أشبه بكيانات حكومية كآلية مجمّعة قطعًا متنافرة. أكثر من ذلك، بل ومستقطعة للقوى السياسية خلافًا للدستور. وقد بات الأمر عُرفًا وواقعًا يستأخر تأليف الحكومات، ويعطّل أعمالها وانتاجها ومشاريعها. الأمر الوحيد الذي كان يعبر بسهولة فظيعة هو التنسيق بين وزارة المال وبين مصرف لبنان للاستدانة بلا حساب ولا اعتبار. وتولّى حاكم مصرف لبنان على حسابه برعاية وزارة المال والحكومات وكل الجمهورية "اجتراح العجائب". لم يترك دولارًا أميركيًا في لبنان والخارج إلّا وعقّمه لتمويل عجز زبائني للسلطة السياسية الفاسدة وتركيب الديون والفوائد. "أيترك مصرف لبنان الدولة تنهار ولا يؤمّن تمويلها؟ أيترك سعر الصرف يتفلّت؟ ألا يسدّد ديون الدولة كي تفقد صدقيتها وتنكل الوفاء بالتزاماتها"؟ هذه ليست وظيفة مصرف لبنان البتّة. راجعوا قانون النقد والتسليف (المواد 89 – 90 و91). لكننا بلغنا كل هذه الحزمة البائسة الآن وأكثر. أين كانت الجمهورية حكومات ومجالس نواب وقوى سياسية؟ كانوا يصفقون لحارس قبو المال المهدور على منافعهم وزبانيتهم. وكانت المصارف مغتبطة للفوائد تسجلها أرباحًا بينما بلغنا حدّ السؤال عن أصل الحقوق والودائع وأموال المساهمين أنفسهم. إنفخت الدفّ.

وصلنا إلى إعادة الهيكلة لا مناص منها إذا قبل الدائنون. الذين باعوا السندات للخارج استنصروه على دولة لبنان لأن يده طائلة على تحصيل الدين. فرفعوا حصته من اليوروبوندز على النحو الذي يعقّد إعادة الهيكلة. لكن الوجه الآخر للبيع كان تحويل عملات إلى الخارج أيضًا في ظل القيود. أشمور وفيدليتي وغيرهما من الصناديق الاستثمارية سجلتا البيع في حسابات أصحاب السندات في مؤسسات مصرفية خارجية.

إستشارة أم مساعدات؟
هل يطلب لبنان برنامج قروض من الصندوق يشترط إصلاحات رفضتها الحكومات والقوى السياسية؟ ربما نقترب من ذلك، لو ضمن الصندوق مساعدة لبنان مع الجهات الدولية الدائنة لإعادة الهيكلة. لتأتِ الإصلاحات من "شياطين الصندوق" لوقف فساد "ملائكة النظام الزبائني". المصرف الدولي يرجّح أن يأتي بعد ذلك بقروض ميسّرة لمشاريع إنمائية محددة. دول سيدر ووكالاته ومن ضمنها الصندوق والمصرف الدوليان، قد تبدأ بالافراج عن التعهدات لو ضمنت الشروع بالإصلاحات القطاعية والهيكلية. أولها وضع الكهرباء وفاتورة واحدة للمستهلك. والصندوق والمصرف يشترطان برنامج مساعدات للفئات الأكثر تهميشًا وفقرًا في سياق الإصلاح. "ملائكة النظام" غافلة عن ذلك. يبقى موقف واشنطن والاتحاد الأوروبي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها