الأحد 2020/11/08

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

رغم الإفلاس.. مصرف لبنان يعمل وفق مخطط "بونزي" المشين

الأحد 2020/11/08
رغم الإفلاس.. مصرف لبنان يعمل وفق مخطط "بونزي" المشين
فشلت خطة الحكومة الإنقاذية لأن المصارف لديها حلفاء أقوياء في البرلمان (السرايا الحكومية)
increase حجم الخط decrease
نشرت مجلة "إيكونوميست" البريطانية يوم السبت الفائت تقريراً عن الحال المزرية للاقتصاد اللبناني، والسياسة المالية غير السليمة لمصرف لبنان.

وجاء في التقرير أن احتياطيات العملات الأجنبية في المصرف المركزي اللبناني، شارفت على بلوغ النقطة الحرجة، أي عدم القدرة على مواصلة دعم السلع الأساسية، وتالياً الوصول إلى الاحتياطي الإلزامي. وبينما أعلن مصدر رسمي لبناني لوكالة "رويترز" مطلع الشهر الماضي، أن لبنان لديه نحو 1.8 مليار دولار في احتياطياته من النقد الأجنبي يمكن إتاحتها لدعم واردات غذائية أساسية وواردات أخرى، لكنه قد يحافظ على بقائها لنحو ستة أشهر أخرى عن طريق إلغاء دعم بعض السلع. وفاقمت الأزمة الاقتصادية الحادة مشاكل القطاع الصحي أيضاً، فبات يشكو من تراجع مخزون الأدوية وارتفاع غير مسبوق في هجرة الأطباء.

نهاية النظام النقدي
مرّ لبنان منذ العام الماضي بأزمات متتالية، بدءاً من الاحتجاجات الشعبية وتفشي فيروس كوفيد -19، وصولاً إلى الانفجار الكارثي الذي أصاب مرفأ بيروت في شهر آب المنصرم. هذه العوامل مجتمعةً تسببت بانهيار اقتصادي طاحن، غيّر سعر صرف الليرة اللبنانية ليبلغ مستوى قياسي منخفض لامس 9000 ليرة للدولار في السوق السوداء، بعدما استقر لعقود عند مستوى 1500 ليرة. وترافق هذا مع بلوغ معدل التضخم السنوي 120 في المئة مطلع شهر آب، وبروز تقديرات بتقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى الربع هذا العام.

ورأت "إكونوميست" أن تفجر الأزمة الاقتصادية، الناجمة عن هدرٍ وفساد حكومي على مدى عقود، ينحدر بالمزيد من السكان نحو الفقر. فبعد أن حافظ المصرف المركزي على دعم بعض السلع الأساسية بأسعار معقولة، كالأدوية والوقود ومنقوشة الصباح والخبز اليومي، بات يمتلك أقل من ملياريّ دولار من احتياطيات العملات الأجنبية القابلة للاستخدام. وبحلول نهاية العام، لن يتمكن من الحفاظ على الدعم. وهذا ما دفع بعض اللبنانيين إلى تخزين المواد الغذائية والأدوية تحسباً لارتفاع الأسعار.

يعني ذلك أن لبنان يعيش نهاية نظام نقدي كان يبدو محصناً بشدة. وكانت سياسة تثبيت سعر صرف العملة قد ساهمت في استعادة الثقة بعد حرب أهلية استمرت 15 عاماً، وبلوغ التضخم ذروته عند 487 في المئة وفقدان الليرة 80 في المئة من قيمتها. لكن هذه السياسة بُنيت على اقتصاد غير منتج وسلسلة معقدة من المعاملات التي أصبحت، في السنوات الأخيرة، تشبه مخطط بونزي (تصميم احتياليّ في عالم الاستثمار المالي، يتلقّى فيه المستثمرون القدامى الأموال من المستثمرين الجدد).

ورغم انهار كل شيء، ترفض النخب السياسية والمالية في لبنان تحمل تكاليف الإصلاح، مجبرين الاقتصاد على التصحيح الذاتي الوحشي، وتكديس العواقب الأشد على المواطنين العاديين.

وتدافع معظم الدول العربية الثابتة العملات عن ربط عملاتها بعائدات صادرات النفط والغاز. أما لبنان فلا يمتلك سوى القليل من صادرات السلع التي بلغت ذروتها في عام 2012، عندما وصلت إلى 4.4 مليار دولار، مقابل 21.1 مليار دولار من الواردات. ولم تكن المصادر الأخرى للعملة الصعبة، مثل السياحة والعقارات، كافيةً للحفاظ على الربط بين الليرة والدولار، فتجاوز عجز الحساب الجاري 25 في المئة، وارتفع العجز المالي إلى ما يزيد عن 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

الهندسة المالية
كان لدى لبنان آنذاك مصدر يتيم موثوق يدّر الدولارات: قطاع مالي نابض بالحياة، احتفظ في ذروته عام 2018، بودائع بلغت قيمتها 179 مليار دولار - أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كان حوالي ثلثها مقوّمة بالدولار. ولتحويل بعض من تلك الأموال إلى خزائنه، صاغ مصرف لبنان مخططاً أطلق عليه "الهندسة المالية". وبدءاً من عام 2016، قام بتبادل الديون بالعملة المحلية مع وزارة المالية لسندات مقومة بالدولار.

ويدافع رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي منذ مدة طويلة، عن هندسته المالية باعتبارها إصلاحاً قصير الأجل. ووفقاً لتبريراته الاقتصادية، لم يتسبب مصرف لبنان في حدوث عجز في لبنان، بل كان ذلك من عمل السياسيين الذين فشلوا حتى في تمرير الميزانية بين عاميّ 2005 و 2017. وترى المجلة البريطانية أن ما ذُكر صحيح نسبياً، مشيرة إلى أن هذه الهندسة قيّدت الجميع في شبكة من الالتزامات المتبادلة. وبحلول عام 2018  كان مصرف لبنان يمول معظم العجز المالي، وفي عام 2019  كان معظم الدين العام للبنان (أكثر من 80 في المئة من الدين بالعملة المحلية و 60 في المئة من السندات بالعملات الأجنبية) مملوكاً للمصارف ومصرف لبنان.

لم تقف الأمور عند هذه الحدود، فقد أودعت المصارف اللبنانية بدورها أكثر من نصف سيولتها لدى مصرف لبنان. وفي تقييمه السنوي للاقتصاد اللبناني، قدّر صندوق النقد الدولي أن المصارف اللبنانية عرضت مجتمعة 69 في المئة من إجمالي أصولها لدى مصرف لبنان، حتى تاريخ أيار 2019.

نفوذ المصارف
تَطّلب الحفاظ على النظام المالي والنقدي المترهل في لبنان إمدادات أكبر من الدولارات الجديدة، ما استلزم فوائد أعلى من أي وقت مضى لجذب المودعين. لذا قفز متوسط أسعار الفائدة على الودائع بالدولار من 3 في المئة عام 2016 إلى ما يقرب من 7 في المئة بعدها بثلاث سنوات. لكن بعد عقد من النمو، تراجعت الودائع المصرفية في أواخر 2018، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أسعار النفط المنخفضة أضرت باقتصادات الخليج حيث يعمل كثير من اللبنانيين.

عقب الدخول في مرحلة الانهيار، سمح مصرف لبنان في شهر نيسان المنصرم، بعمليات سحب بسعر صرف يبلغ 3900 ليرة للدولار الواحد. أي ما لا يقل عن نسبة تصل إلى 55 في المئة عن سعر السوق السوداء."وهذا اقتطاع كبير من أموال اللبنانيين"، حسب آلان بيفاني، الذي استقال في حزيران المنصرم، بعد 20 عاماً من توليه منصب المدير العام لوزارة المالية. وعلى الرغم من هذا الاقتطاع، سارع الناس إلى سحب الودائع. وارتفع النقد اللبناني المتداول بنسبة 274 في المئة حتى شهر آب المنصرم.

واقترح رئيس الحكومة حينذاك حسان دياب تحميل المزيد من الخسائر إلى المصارف، بدلاً من تحميلها للمودعين بالكامل. ووافقت حكومته على خطة تدعو إلى الإنقاذ، وفرض اقتطاعات على المودعين الأثرياء. وبدأت محادثات مع صندوق النقد الدولي حول اتفاقية مالية تصل قيمتها إلى 10 مليارات دولار. ورغم أن الصندوق كان يدعم خطة الحكومة على نطاق واسع، فقد فشلت لأن المصارف لديها حلفاء أقوياء في البرلمان، ومعظمها مملوكة جزئياً لسياسيين أو لعائلاتهم. وفي اجتماعات مع صندوق النقد الدولي، لم يتفق المصرفيون حتى على حجم خسائر لبنان، وأبدوا إصرارهم على أن أرقام حكومة حسان دياب مبالغ فيها.

الحريري: السياسة المالية نفسها
تستبعد المجلة أن يقوم الرئيس المكلف سعد الحريري، الذي لا يزال يكافح لتشكيل حكومته، باتباع سياسة لا ترضي المصارف. فلقد كان هذا الأخير رئيساً للوزراء من قبل، عندما أقر مصرف لبنان خطة الهندسة المالية. وعائلته الحريري لديها حصة في بنك البحر المتوسط اللبناني، أحد أكبر المصارف في البلاد (زوجة أبيه تشغل منصب نائب رئيس مجلس الإدارة).

ويتزامن ذلك مع اقتراح جمعية مصارف لبنان بيع 40 مليار دولار من أصول الدولة للمساعدة في تنظيف هذه الفوضى. ويجادل خبراء بأن هذا الرقم يبالغ بشدة في تقييم قيمة أصول لبنان، من بينها شركة كهرباء لا يمكنها توفير الكهرباء على مدار 24 ساعة، وقطاع اتصالات يوفر أبطأ سرعات الإنترنت في العالم. وتشدد المجلة على عدم احتمال أن يتهافت المستثمرون على شراء أي منهما في صفقة بيع سريعة.

وتُرك مصرف لبنان مرة أخرى ليواصل سياساته، والتي يبدو أن بعضها محاولات للحفاظ على استمرار مخطط بونزي. ففي آب المنصرم طلب من المصارف زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20 في المئة أو "الخروج من السوق" في شباط من العام المقبل. وطالب المودعين الذين حولوا ما يزيد عن 500 ألف دولار للخارج خلال الفترة المبتدئة من 1/7/2017 بإيداع 15 في المئة من المبلغ المحول في لبنان. فيما لم يتضح ما الذي قد يحفز العملاء على إرسال الأموال إلى نظام مصرفي متعثر.

حتى الأخبار الجيدة في لبنان يكون وقعها كارثياً على المواطنين. فانخفاض العجز التجاري بنسبة 51 في المئة في الربع الأول من العام 2020، يعود إلى أن قلة من اللبنانيين يستطيعون اليوم تحمل تكاليف السلع المستوردة. وانخفاض التزامات المصارف، وكذلك ودائع العملاء بنسبة 16 في المئة حتى آب المنصرم، يعودان لحاجة اللبنانيين لسحب ودائعهم بالليرة وبهامشٍ كبير عن سعر السوق. وتختم المجلة بالقول أن السياسيين والمصرفيون لا يزالون يأملون في تجنب الحساب، على الرغم من انهيار الاقتصاد من حولهم، وفقداتهم أي مكان يلجأون إليه.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها