الجمعة 2020/11/27

آخر تحديث: 14:36 (بيروت)

لبنان بين نارين: رفع الدعم أو اختفاء أموال "الاحتياطي"

الجمعة 2020/11/27
لبنان بين نارين: رفع الدعم أو اختفاء أموال "الاحتياطي"
بين مطرقة رفع الدعم وسندان المس بآخر الاحتياط المالي (Getty)
increase حجم الخط decrease

نفى حاكم مصرف لبنان نيّته خفض الاحتياطي الإلزامي الذي تخضع له المصارف اللبنانية، بعدما سرّبت بعض المصادر وجود هذا الإتجاه، في محاولة لتحرير جزء من هذه السيولة واستعمالها، للاستمرار بدعم استيراد السلع الحيويّة. لكنّ، وبدل أن يعالج الحاكم الهواجس التي أثارتها التسريبات، أثار نفيه المزيد من التساؤلات والمخاوف. خصوصاً أن البديل عن خفض الاحتياطي ليس سوى رفع الدعم، في حين أن خفض الاحتياطي الإلزامي –الذي نفاه الحاكم- لا يشكّل عمليّاً الطريقة الوحيدة للتصرّف بالسيولة التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان كاحتياطات إلزاميّة. باختصار، سيكون لبنان خلال الأيام المقبلة بين مطرقة احتمالات رفع الدعم وما سينتج عنه من كوارث معيشيّة واجتماعيّة، وسندان المس بآخر ما تبقّى من أموال المودعين في مصرف لبنان، بحجة الاستمرار بتقديم الدعم.

إذاً، يقف مصرف لبنان بين خيارين أحلاهما مرّ، مع العلم أن المصرفي المركزي سيكون بإمكانه أن يوازن بين فكرة ترشيد الدعم حتّى حدّها الأقصى، والاستمرار بتوفير القليل من السيولة ولو من الاحتياطي الإلزامي. وبين كل هذه الخيارات، يتجه حاكم مصرف لبنان إلى حسم قراره سريعاً، في فترة أقصاها الأسبوع المقبل، خصوصاً كون ما تبقى من سيولة يمكن استخدامها -قبل الوصول إلى مرحلة المس بالاحتياطي الإلزامي- لا يكفي لأكثر من شهر. هذا، مع العلم أن الحاكم حرص هذه المرّة على ضم جميع أعضاء المجلس المركزي إلى المداولات التي يجريها، قبل اتخاذ القرار الحسّاس، لعلمه أنّ هذا النوع من القرارات سيحتاج إلى غطاء من العيار الثقيل جدّاً، فأي من الخيارات المطروحة ستؤدّي إلى بلبلة يصعب استيعابها سريعاً.

وهم الاحتياطي الإلزامي
من الناحية القانونيّة، لا ينص قانون النقد والتسليف على أي نسبة كاحتياطي إلزامي يقتضي الحفاظ عليها في جميع الظروف. بل إن المادة 76 من هذا القانون تعطي مصرف لبنان صلاحيّة اتخاذ هذا النوع من "التدابير التي يراها ملائمة" وفقاً لتقديره، كما تعطيه هذه المادّة خيار اعتبار توظيفات المصارف في الدين العام جزءاً من هذا الاحتياطي. أي أن الاحتياطي الإلزامي ليس سوى نسبة يحددها الحاكم والمجلس المركزي بشخطة قلم، وبالإمكان تصفير هذه النسبة مثلاً، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.

ومن الناحية الماليّة، لا يوجد فرق بين الاحتياطي الإلزامي وسائر الأموال التي كان يتصرّف بها مصرف لبنان طوال الفترة الماضية لدعم الاستيراد. فكل هذه الأموال تعود أساساً للمصارف، التي تدين بها للمودعين في نهاية المطاف. مع العلم أن القانون لم يحدد أيضاً أي ضوابط على المصرف المركزي، من ناحية طريقة التصرّف بهذا الاحتياطي أو إمكانيّة إقراضه للدولة. وإذا كان المنطق يقضي بالمحافظة على هذا الاحتياطي الإلزامي كضمانة لأموال المودعين، فالمنطق نفسه يسري على سائر توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، والتي جرى استعمالها لتمويل الاستيراد ودعمه.

لكل هذه الأسباب، ثمّة من يعتبر اليوم أن سلامة وضع بقرار منه الاحتياطي الإلزامي كعتبة، يُعاد عندها النظر في طريقة تقديم الدعم لاستيراد السلع الحيويّة. خصوصاً كون الحاكم يعلم أن السلطة السياسيّة لن تبادر من تلقاء نفسها إلى إعادة النظر بالدعم تحت أي ظروف، بالنظر إلى حساسيّة الموضوع على المستوى الشعبي. وبذلك، تكون مسألة الاحتياطي مجرّد إخراج إعلامي أمام الرأي العام، علماً أن إعادة النظر بالدعم تشكّل اليوم شرطاً أساسياً لجميع الجهات المانحة، وفي مقدّمها صندوق النقد الدولي، لكونها جزءاً من خريطة الطريق المطلوبة لإعادة توحيد أسعار الصرف المتعددة في السوق. وفي كل الحالات، من المعروف أن مسألة رفع الدعم أو تعديل طريقة تقديمه تمثّل نقطة من النقاط القليلة التي تتقاطع فيها نظرة رياض سلامة مع نظرة الاستشاريين المقرّبين من صندوق النقد. وهو ما يسهّل اليوم اتخاذ هذه الخطوة.

تطيير أموال المودعين
إعادة النظر بالدعم مع الاقتراب من مرحلة المساس بالاحتياطي الإلزامي، لن يعني عدم المساس بهذا الاحتياط تماماً. فعمليّاً، ووفق جميع الخطط المطروحة، ما يتم الإتجاه إليه ليس وقف الدعم تماماً، بل ترشيده وتخفيضه تدريجيّاً، وتغيير طريقة تقديمه. خصوصاً أن وقف الدعم التام سيعني خضّة اجتماعيّة كبيرة لا يقوى أحد على تحمّل نتائجها، سواء من ناحية كلفة المواد الأساسيّة أو من ناحية سعر الصرف. لذا، سيتم استعمال عتبة الاحتياطي الإلزامي لفرض إعادة النظر بالدعم، من دون أن يعني ذلك عدم المساس بهذا الاحتياطي بشكل تام، خصوصاً أن ما تبقى من احتياطات قابلة للاستعمال قبل المس بـ"الاحتياطي الإلزامي" لا يتجاوز مستوى 800 مليون دولار أميركي، وهو ما سيكفي بالكاد حتّى نهاية الشهر المقبل.

فكرة تخفيض الاحتياطي الإلزامي طُرحت بالفعل، لكنّها مستبعدة. خصوصاً أن إزالة الطابع الإلزامي عن هذا الاحتياطي يقتضي منطقيّاً تحريره والسماح للمصارف باستعماله بالطريقة التي تريدها. وهذا تحديداً ما أشار إليه الحاكم في نفيه، حين قال بأنّ تخفيض نسبة الاحتياطي يقتضي أن يكون لصالح أصحاب هذه الودائع، أي المصارف نفسها. وبما أنّ خيار تحرير الاحتياطي والسماح للمصارف باستعماله غير مطروح بتاتاً، فمن المتوقّع أن يتغاضى المجلس المركزي عن اللجوء إلى هذا الخيار بشكل مطلق، مقابل التفكير بأساليب أخرى لمتابعة استعمال الاحتياطات المتبقية في مصرف لبنان.

البدائل في هذه الحالة ستكون بالحفاظ على نسبة الاحتياطي الإلزامي المفروض على المصارف كما هي، والحفاظ على هذه الودائع بوصفها إلتزامات مفروضة على مصرف لبنان لصالح المصارف، من ناحية المطلوبات، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى باقي ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الصعبة، والتي لا يملك مصرف لبنان القدرة على سدادها. لكن من ناحية السيولة المتبقية بحوزة مصرف لبنان، بإمكان المصرف منح جزء من هذه السيولة كتسليفات مؤقتة للحكومة لاستعمالها في أبواب محددة، أو استعمالها لتقديم الدعم للاستيراد بعد ترشيده. وفي هذه الحالة، سيستمر مصرف لبنان باحتساب هذه التسليفات التي منحها للدولة في باب الموجودات التي يملكها، ولو لم تكن هذه الموجودات أموالاً سائلة فعلاً، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى سندات الخزينة التي يملكها اليوم، والتي لطالما احتسبها المصرف المركزي ضمن احتياطاته الموجودة بالعملة الصعبة، من دون أن تكون موجودات سائلة أو قابلة للتسييل.

ببساطة، ستكون هناك مجموعة من الهندسات المحاسبيّة الشكليّة، نتيجتها استعمال ما تبقى من أموال المودعين مجدداً، ولو لم يتم تخفيض الاحتياطي الإلزامي شكلياً. وحسب المتابعين، لن يكون أمام السلطة ومصرف لبنان خيارات بديلة، خصوصاً أن الدولة سيترتّب عليها مجموعة من الإلتزامات بالعملة الصعبة، كسداد كلفة الفيول لمعامل الكهرباء وكلفة إيجار معامل الكهرباء العائمة، بالإضافة إلى كلفة الدعم بعد ترشيده، في حين أن ما تبقى من سيولة غير كافٍ لسداد هذه المستحقات قريباً.

شكل الدعم المقبل
حتّى اللحظة، من المؤكّد أن أولى القطاعات التي ستبدأ بالتأثر برفع الدعم سيكون قطاع المحروقات، خصوصاً بالنظر إلى كلفة هذا الدعم الباهظة على الاحتياطات. أما دعم استيراد الدواء، فسيتجه حكماً إلى الترشيد من خلال تحديد أصناف الأدواء التي يمكن استبدالها بأدوية "جينيريك"، أي أدوية تملك التركيبة ذاتها إنما بعلامات تجاريّة مختلفة. وبما أن ترشيد الدعم على سلة المواد الغذائيّة بدأ أساساً، فيستكمل مصرف لبنان هذا المسار عبر تقليص هذا الدعم تدريجيّاً، وصولاً إلى رفعه كليّاً.

في الخلاصة، سيتجه مصرف لبنان إلى رفع الدعم بشكل تدريجي، في محاولة لتقليص حجم الصدمة الاجتماعيّة الناتجة عن هذا القرار، وتقليص حجم الطلب الكبير على الدولارات الذي سينتقل إلى السوق السوداء بعد رفع الدعم.

الشكل البديل للدعم ما زال يتركّز حول فكرة البطاقات التموينيّة، والتي سيتم منحها للعائلات الأكثر حاجة، وفقاً لبيانات تنكبّ الحكومة على إعدادها. أما المسألة الأكيدة، فهي أن الحكومة لم تتمكّن حتّى اللحظة من إعداد الآليّة المحكمة التي تضمن توزيع هذه البطاقات على العائلات الأكثر حاجة، ومن دون أن تخضع إلى قواعد الزبائنيّة والمحسوبيّات. وفي كل الحالات، تبقى المسألة الإشكاليّة هنا عدم قدرة حكومة تصريف الأعمال على اتخاذ قرار بهذا الحجم، لكونه يرتّب إلتزامات ماليّة كبيرة على الدولة، في حين أنّها غير مخوّلة دستوريّاً اتخاذ هكذا قرارات حساسة. ولذلك، تعزز هذه الفكرة من اعتقاد معظم المتابعين بأن المسار التدريجي لرفع الدعم سيأخذ المزيد من الوقت، وهو ما يعزز بدوره الاعتقاد بحتميّة المساس بما تبقى من احتياطات لدى مصرف لبنان، ولو وفق صيغ ملتوية.

أمام كل هذه التطوّرات، بات من الواضح أن الخطر المحدق باللبنانيين آتٍ من ناحيتين: رفع الدعم وما سينتج عنه من ويلات معيشيّة، وتطيير ما تبقى من ودائع مصرفيّة. والأكيد حتّى اللحظة، هو أن كِلا الخطرين الداهمين آتيان. لكنّ السؤال سيكون عن حجم كل من الخطرين وثقله، وكيفيّة الموازنة في ما بينهما. أما المفارقة هنا، فهي غياب جميع القوى السياسيّة الوازنة في البلاد عن المشهد، وعدم استشعارها بمخاطر كبيرة من هذا الحجم، تستدعي اليوم الإسراع في تشكيل الحكومة، ليكون هناك من يتحمّل مسؤوليّة الظرف الحالي على الأقل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها