الإثنين 2020/01/27

آخر تحديث: 00:15 (بيروت)

أوليغارشيا قذِرة و"صندوقٌ رحيم"!

الإثنين 2020/01/27
أوليغارشيا قذِرة و"صندوقٌ رحيم"!
أزمة لبنان ذات طابع شبه شمولي مرّة واحدة. مالية ونقدية واقتصادية (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

تذهب الدول إلى صندوق النقد الدولي لمعالجة أزمة ديونها المعسرة، قبل أن تبلغ مرحلة التوقف عن الدفع. لائحة الشروط التي يفرضها الصندوق معروفة للملأ، ومعلنة مسبقًا في المبادئ العامة. ويبقى إطار المعالجة تبعًا لمواطن الضعف الهيكلية والقطاعية الأشدّ تأثيرًا، تبعًا لحالة كل بلد. والشروط لائحة آلام مبرّحة من الطبيعي أن تلحق بالحلقة الأضعف من محدودي الدخول.

ما الذي يجعل الصندوق خيارًا؟ نحتاج إلى حاجز صد الانهيار والتقاط الأنفاس. هذا يعني مالًا فوريًا. وهو ليس متوفرًا لا من مصادر عربية ولا من مصادر دولية على مستوى الحكومات. وفي كل الأحوال حتى لو توفر المال الطازج مساعدات وقروضًا من تلك المصادر، فـ"ملائكة الصندوق حاضرة". هي التي سيعهد إليها رقابة المسار التقني لالتزام التعهدات المقابلة وعملية الإصلاحات. مؤتمر سيدر لم يخرج على هذه القاعدة. ضلع الرقابة الآخر مع الصندوق كان المصرف الدولي الشقيق. باعتبار التعهدات مخصصة تحديدًا لمشاريع البنى التحتية التي تدخل في صلب مهمّات المصرف. بينما مهمّات الصندوق ذوات صلة بالمساعدة التقنية والمالية العامة والموازنات ونُظم الدفع والدين العام وسواها. وهذه قد تتطلّب توفير قروض تبعًا لبرامج محددة. زيارات الموفد الفرنسي بيار دو كان إلى بيروت في ما يتعلق بسيدر، كانت على خلفية العلاقات السياسية التي تربط فرنسا بلبنان. ولكونها البلد المضيف لمؤتمر سيدر لإطلاق محركات التعهدات. وعلى الخلفية نفسها كانت "عظات التأنيب" التي أطلقها الموفد حيال تجاهل لبنان الإصلاحات المطلوبة، الهيكلية والقطاعية. في مقدمها كان ملف الكهرباء، عار لبنان على مرّ العصور. أي أن الدور الفرنسي في سيدر كان معنويًا وسياسيًا في المقام الأول. وكان دور المصرف والصندوق الدوليين سيأتي في المرحلة التنفيذية حارسًا ومراقبًا. وبعد انطلاق قطار الإصلاحات، كل جزء يفرج عنه من التعهدات في مقابل مشروع. واستطرادًا، في مقابل التقدم في العمل وشفافيته وجودته.

"فرائد لبنانية"!
في "الحالة اللبنانية الفريدة في خصائصها" كما في كل شيء، نحن أمام المفارقات الآتية لو تقرّر الذهاب إلى الصندوق.

أولًا: تذهب الدول إلى صندوق النقد الدولي بأعباء ثقيلة وتأتي بلائحة الآلام ووصفة الدواء المرّة. بينما نحن ذاهبون بالآلام وارتداداتها قبل أن نبدأ التفاوض على لائحة آلام إضافية، لا يمكن التيقن بردود الفعل الشعبية عليها. تحرّكُ وصفاتُ الصندوق شوارعَ الدول. نحن ذاهبون والثورة في الشوارع وعلى مقار الحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان ومؤسسات حكومية أخرى.

ثانيًا: يتطلّب الذهاب إلى الصندوق قرارًا سياسيًا صلبًا من حكومة صلبة ومدعومة شعبيًا. المواصفات لا تحوزها هذه الحكومة الوليدة. ينظر إليها حكومة "حزب الله" الموالي طهران. وتفتقر إلى الدعم الشعبي الذي يخولها أن تكون حكومة إنقاذ  كما صرّح رئيس الحكومة حسّان دياب. إلى ذلك، أن فريق الحكومة قد لا يوافق على الصندوق خيارًا. لأنه معارض لتوجهاته وسياساته. والصندوق نهج بعد 2008 سياسة جديدة لتقديم دعمه للحكومات وبات يعوّل على تأييد حكومي لبرامجه. في حالة مصر التي حصلت على 12 مليار دولار أميركي قرضًا ميسّرًا طويل الأجل طلب سلفًا تأييدًا سياسيًا ودعمًا شعبيًا. الإجماع هناك إرادة الرئيس. الحكومة جاهزة ومجلس الشعب رهن الإشارة. لبنان بلد مختلف، والحكومة من لون واحد، والنظام ليس رئاسيا ولا ديكتاتوريا. الشعب في الشارع الآن.

ثالثًا: لا يمكن إحداث اختراق لمصلحة لبنان في صندوق النقد الدولي من خارج التأييد الأميركي. حتى الآن كل الإشارات التي صدرت عن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وعن مسؤولين في الخارجية توصّف الحكومة "حكومة حزب الله". اللافت المهمّ أيضًا، أن واشنطن ومعها فرنسا ودول أوروبية أخرى، تعوّل على تعاطي الحكومة مع المتظاهرين واستجابتها مطالبهم. ومستقرّ تلك المطالب في التغيير السياسي مفتاحًا للمطالب الاقتصادية والاجتماعية ولدولة الدستور والقانون والشفافية. الأمر سيعقّد الموقف اللبناني في المفاوضات المفترضة مع الصندوق. واشنطن والاتحاد الأوروبي قد لا يقدّمان هدية لحكومة لبنانية يهيمن عليها "حزب الله" وحلفاؤه.

رابعًا: أزمة لبنان ذات طابع شبه شمولي مرّة واحدة. مالية ونقدية واقتصادية. لكنها لا تنفصل عن أزمة مصرفية جرّاء انكشاف المصارف على دين الدولة وعلى مصرف لبنان. وأي مفاوضات مع صندوق النقد الدولي ستضع هذا العنصر في رأس جدول الأعمال. ومعه سعر صرف الليرة وخفضه رسميًا ليتمكن مصرف لبنان من الدفاع عنه على مستويات أعلى في المستقبل. ولا يوجد برنامج فرادى للتفاوض على الدين العام والحؤول دون اعلان لبنان دولة متوقفة عن الدفع في معزل عن معالجة الوضع المصرفي وسيولته وملاءته. السياسات المالية والنقدية وضعت الجميع في مركب واحد.

خامسًا: من فرائد الأزمة اللبنانية، أن المؤسسات العامة والمصالح المستقلة التابعة للدولة التي يفترض أن تنتج وتحقق أرباحًا، عاجزة ومنقوصة الخدمات والجودة. الكهرباء في طليعتها وباتت حصة عجزها التراكمي في الدين العام مع الفوائد أكثر من 40 مليار دولار أميركي قرب نصف الدين العام. والكهرباء ليست كفيّة! مصادر إيرادات الخزانة الأخرى كالهاتف الخلوي إلى تراجع كمًا ونوعًا. والأوليغارشيا بفريقها السياسي على رأس أهم المؤسسات الدستورية، يستقطع كيانات اقتصاية عامة ويستنزفها إداريًا وماليًا. وفريق رجال الأعمال المقرّب، ما زال يصادر أملاكًا عمومية، ويتهرب من الضريبة، ويملك نفوذًا واسعًا في القرارات التشريعية والإجرائية. كل تلك الشؤون يفترض أن يوضع حدٌ لها في أي برنامج مع صندوق النقد الدولي لمنع الانهيار الشامل. ربّما لم يواجه صندوق النقد حالة مهترئة كلبنان تتجاوز المالي والنقدي والاقتصادي، إلى التفلت المؤسسي، وتجاوز القوانين والدستور، وسرقة المال العام والفساد السياسي. وكل ذلك وقت يعاني خطر الانهيار. هذا لم يحدث شبهه في اليونان والأرجنتين. ولا في أسبانيا والبرتغال اللتين تلقتا دعما من الترويكا الدائنة، الإتحاد الأوروبي، والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وكانتا على وشك الافلاس المصرفي، وتقتربان من تصنيف سيادي من مندرجات C. أكثر من حكومة تغيرت هناك في عام واحد. وأجريت انتخابات نيابية.

سادسًا: في مناخ سياسي ومؤسسي كهذا، أي خطة تقشف مالي يطلبها الصندوق وتكون قابلة التطبيق شعبيًا، لا يمكن  إلّا أن تبدأ باستعادة امتيازات المال وموارد الضرائب وحيازات الدولة من الأوليغارشيا والنظام السياسي الفاسد. أدبيات صندوق النقد نفسه أصبحت تقترح برنامج دعم الفئات الأكثر تهميشًا موازيًا للتقشف. يذهب لبنان إلى الصندوق أم لا. صدِقوا، الصندوق أنظف من أوليغارشيا لبنان وأرحم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها