من الخارج نشتري العملات الأجنبية بسعر باهظ، لنحافظ على عملة وطنية سيادتها مرتهنة بتدفقات نقدية خارجية لا تفي بالحاجة. لأن النقد الذي يستولده اقتصاد منتج ومستدام النمو ليس موجودًا. ونشتريها دينًا أيضًا، لسداد التزامات في مواعيدها تساوي كيان الدولة. واستمررنا في هذا النهج، حتى عزّت مصادر التمويل. لكن نهج الإصلاح لا نلتزم. وكأن الاستمرار في نهج الاستدانة بالقوة القاهرة لتفادي الأسوأ، خير وسيلة لدوام تمويل نظام سياسي جائع للمال بأي ثمن، وحَرون في وجه الاصلاح بأي ثمن.
مقولة الدين بالليرة
الخارج هو الذي يصنّف ديون لبنان السيادية. كانت النظرية السائدة عقودًا مضت، أن دين لبنان بالليرة ليس مشكلة طالما أن لبنان مدينٌ بعملته وله حق السيادة عليها. والدين بالعملات الأجنبية هو الأهم لأنه ليس من صناعتنا. وتمّ تجاهل حقيقة أن الدين بالعملة الوطنية في نظام قائم على حرية تبادل العملات وحرية التحويلات بلا قيود، لا يختلف كثيرًا في الجوهر عن الدين الخارجي. خصوصًا زمن الأزمات. والأمر يحتاج لحظات لتحويله حين استحقاقه عملات أجنبية وإيداعه في الخارج. واجهنا هذه المشكلة بجور ولا نزال نواجهها. لم يكن تراجع ميزان المدفوعات المتمادي منذ 2011 نتيجة شحّ التدفقات النقدية فحسب، بل وللتحويلات المحلية من العملات الأجنبية إلى الخارج رغم حوافز الفوائد المهولة. النظام النقدي الحرّ انكشف على نفسه. والأسوأ، هو أي إجراء لوضع قيود عليه في هذه الظروف، أو لمجرد الاشارة إلى هذا الأمر من قريب أو من بعيد.
العلاقة وُثقى
ما علاقة التصنيف السيادي للبنان بانكشاف لبنان السيادي شبه الكامل على الخارج. سياسةً ومالًا واقتصادًا ودفاعًا؟
أولًا: لم يغفل تصنيف سيادي وائتماني صدر عن وكالات دولية، الإشارة إلى البيئة السياسية والتناحر الطائفي في لبنان، الذي يرفع منسوب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي ويضعف كيانات الدولة ويعرقل الاصلاح.
ثانيًا: المخاطر الجيوسياسية حاضرة أيضًا. لم تعد تقتصر على سوريا وأزمتها. انتقلت بثقلها إلى النزاع الإيراني الأميركي، مع إعلان فريق لبناني أساسي هو "حزب الله" جهارة، ولاءه لطهران واستعداده للدخول في حرب من لبنان لو تعرضت إيران. وهو موقف لا علاقة للبنان واللبنانيين به، ومن شأنه لو تحقق جلب الدمار للبنان واخترابه. العقوبات المالية المفروضة على الحزب من الولايات المتحدة، التي بدأت تلحق ضررًا بالغًا بالمصارف اللبنانية، وبفئات عريضة من اللبنانيين في لبنان وخارجه، في صرف النظر عن دوافعها السياسية، إنما يفاقم نتائجها ضعف الموقف السيادي اللبناني، وتأييد فريق أساسي من الحكم علنًا حينًا وضمنًا أحيانًا موقف "حزب الله". نفهم أن يكون هذا الموقف من العدو الصهيوني ليكون وطنيًا جامعًا وموحدًا، في سياسة دفاعية وطنية يكون فيها قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية. وتُحشد لها كل الإمكانات المتاحة للدفاع عن لبنان وشعبه. أمّا أن يُرهن لبنان واللبنانيون لعلاقات طهران بالولايات المتحدة وغيرها، فانكشاف على المخاطر والسيادة غير مسبوق في دولة ووطن.
ثالثًا: هذه هي حال الدولة المدينة في لبنان بنحو أكثر من 150 في المئة من ناتجها المحلي. المصارف اللبنانية هي التي تحمل الدين مع مصرف لبنان. ومع مؤسسات لها الطابع العام مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع. بالاضافة إلى ديون متوجبة الاداء لمقاولين ومستشفيات. اليوروبوندز المحمول من أجانب قد تكون تراجعت حصته كثيرًا في 2018 و2019 بعد أن كان في حدود 8 مليارات دولار أميركي.
إنكشاف المصارف على تصنيف الدولة السيادي، طبيعيًا في سياق انكشاف الدولة الأوسع على المخاطر المالية المتأتية من العجز، وعلى المخاطر الدولة السيادية. ويخطئ من يعتقد في تصنيف سيادي سلبي للدولة، وآخر ايجابي يبقي المصارف في منأى عن التصنيف السلبي.*
إستوقفنا كلام لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في لقائه الأخير مع المصارف، حين وعد بتعميم جديد بعد تصنيف وكالة فيتش لبنان إلى CCC يرفع فيه تثقيل أوزان المخاطر على ديون الدولة من اليوروبوندز إلى 150 في المئة، ويبقيه على ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية على 50 في المئة. وكأن مصرف لبنان غير الدولة اللبنانية. علمًا، أن تراجع الاحتياط الصافي القابل للتصرف في المصرف، كان موضع تركيز من فيتش وستاندرد أند بورز في تقريريهما الأخيرين. حاكم مصرف لبنان أعلم بمعايير بازل 3 وبالمعيار المحاسبي ( IFRS ). عسى.
* المقالة كتبت قبل صدور تقرير فيتش بخفض تصنيف مصرف عودة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها